قضايا وآراء

صفقة الغاز بين مصر والكيان الصهيوني: أمن الطاقة أم تطبيع القيد؟

رضا فهمي
"الغاز هنا ليس مجرد سلعة، بل وسيلة هندسة سياسية إقليمية"- جيتي
"الغاز هنا ليس مجرد سلعة، بل وسيلة هندسة سياسية إقليمية"- جيتي
في خطوة وُصفت بأنها "الأضخم في تاريخ دولة الاحتلال"، أعلن وزير الطاقة الصهيوني إيلي كوهين عن توقيع صفقة غاز مع مصر تمتد حتى عام 2040، معتبرا إياها إنجازا تاريخيا على المستويات الأمني والسياسي والاقتصادي. ورغم ما قد يبدو على السطح من أن الصفقة تتعلق فقط بتبادل تجاري، إلا أن دلالاتها تتجاوز بكثير مجرد تصدير الغاز الطبيعي من تل أبيب إلى القاهرة.

ما الذي يجعل دولة الاحتلال ترى في هذه الصفقة "إنجازا أمنيا"؟ ولماذا تجرؤ على الالتزام باتفاق طويل الأجل مع نظام مصري يوصف بأنه هش سياسيا، ومع شعب يرى في إسرائيل، بنسبة 87 في المئة بحسب آخر الاستطلاعات، العدو الأول رغم معاهدة السلام الموقعة منذ أكثر من أربعة عقود؟

أولا: الأمن كما تراه دولة الاحتلال
القمع في مصر يخدم إسرائيل أمنيا. فكلما ضاقت المساحات العامة، وتلاشت السياسة من الشارع، أصبحت الاتفاقيات الكبرى تُمرر دون نقاش، بل ودون معرفة. المواطن الذي يُطارَد من أجل منشور على فيسبوك، لن يملك أن يعترض على صفقة غاز بمليارات الدولارات

حين تتحدث إسرائيل عن "الأمن"، فهي لا تقصد فقط سلامة الحدود أو ردع الأعداء، بل تعني خلق بيئة استراتيجية تُقلّص من المخاطر وتُراكم المكاسب. ومن هذا المنظور، فإن صفقة الغاز مع مصر تمثل:

• تحصينا للعلاقة مع المؤسسة العسكرية المصرية، التي ترى إسرائيل أنها صاحبة القرار الحقيقي، مهما تبدلت الوجوه على رأس النظام.

• أداة لضمان الاستقرار الإقليمي، إذ إن تشابك المصالح الاقتصادية يجعل أي نزاع محتمل مع مصر مكلفا على الطرفين، لكنه مكلف بشكل أكبر على الطرف المصري الذي يعاني من أزمات اقتصادية خانقة.

• قيدا طويل الأجل يكبل صانع القرار المصري المقبل، مهما كانت خلفيته أو توجهاته، ما دام الغاز الإسرائيلي جزءا من البنية التحتية للطاقة والتصدير في مصر.

بكلمات أخرى، هذه الصفقة هي "معاهدة سلام ثانية" لكنها غير معلنة، وبأدوات اقتصادية بدلا من الحبر السياسي.

ثانيا: رهان على النظام.. لا على الشعب

اللافت أن دولة الاحتلال تُقدِم على هذه الصفقة مع دولة يتجاوز عدد سكانها 110 ملايين نسمة، وذات رأي عام يكنّ لها عداء واسعا. لكن الحسابات الإسرائيلية هنا واضحة ومجردة:

• الشعوب لا تحكم، والنظام الحالي يُمسك بالمشهد بقوة القمع لا الشرعية.

• العداء الشعبي لا يُقلق ما لم يتحول إلى حركة سياسية منظمة، والنظام نجح حتى الآن في تفكيك كل إمكانات التعبئة الشعبية.

• تطبيع المصالح أقوى من تطبيع الشعارات، فكلما زادت الاستثمارات والارتباطات، كلما ضعفت قدرة أي نظام قادم على التراجع، مهما كانت شعاراته.

الرهان الإسرائيلي ليس على تبدل مواقف المصريين، بل على شلّ قدرتهم على الفعل. العداء الرمزي يمكن احتماله، لكن العدائية الفاعلة هي ما تحسب له إسرائيل ألف حساب، ولذلك تعمل على محاصرته من المنبع.

ثالثا: الأمن مقابل القمع
صفقة الغاز ليست فقط اتفاقا اقتصاديا، بل هي وثيقة تبعية مؤجلة. إنها تلخيص بليغ للعلاقة بين نظام هش يبحث عن الشرعية من الخارج، ودولة احتلال تعرف من أين تؤكل الكتف في الشرق الأوسط

مفارقة قاسية لكنها واقعية: القمع في مصر يخدم إسرائيل أمنيا. فكلما ضاقت المساحات العامة، وتلاشت السياسة من الشارع، أصبحت الاتفاقيات الكبرى تُمرر دون نقاش، بل ودون معرفة. المواطن الذي يُطارَد من أجل منشور على فيسبوك، لن يملك أن يعترض على صفقة غاز بمليارات الدولارات.

رابعا: الغاز كأداة هندسة سياسية

الغاز هنا ليس مجرد سلعة، بل وسيلة هندسة سياسية إقليمية. فمن خلاله:

• تُحافظ إسرائيل على مكانتها كفاعل إقليمي.

• تُضعف محيطها العربي من الداخل عبر ربط الأنظمة بشبكة مصالح تخلق حالة "الارتهان الهادئ".

• تُظهر نفسها أمام الغرب كـ"شريك استقرار"، بينما تُقدّم جيرانها كأنظمة وظيفية لا تملك قرارا مستقلا.

من هنا، فإن صفقة الغاز ليست فقط اتفاقا اقتصاديا، بل هي وثيقة تبعية مؤجلة. إنها تلخيص بليغ للعلاقة بين نظام هش يبحث عن الشرعية من الخارج، ودولة احتلال تعرف من أين تؤكل الكتف في الشرق الأوسط.

والسؤال الذي يبقى مطروحا:

هل من الممكن يوما أن تفيق الشعوب من غيبوبة القهر، وتكسر قيود التطبيع التي صيغت لها باسم "الأمن والاستقرار"؟
التعليقات (0)

خبر عاجل