قضايا وآراء

الأمن المائي المصري بين الحقوق التاريخية وحلم النهضة الأفريقي

عباس قباري
"أصبحت أزمة سد النهضة واقعا تعيشه مصر"- جيتي
"أصبحت أزمة سد النهضة واقعا تعيشه مصر"- جيتي
قبل أيام أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الانتهاء من أعمال مشروع سد النهضة، وأن تدشينه في احتفالية تاريخية ستتم خلال العام الحالي، وأنه سوف يقوم بدعوة مصر والسودان لحضورها، مشددا على أن سد النهضة لن يؤثر على تدفقات المياه إلى مصر وأنه لا يشكل تهديدا، بقدر ما يمثل فرصة مشتركة.

مصر هبة النيل..

هذه العبارة التاريخية الشهيرة التي تنسب للمؤرخ الأشهر هيرودوت توضح أن النيل ومصر لا ينفكان عن بعضهما، وأن مصير مصر منذ قديم التاريخ مرتبطٌ بالنيل، في المقابل فإن النيل ليس "هبة مصر وحدها"، فالنهر يعد شريان حياة في عشر دولة أفريقية أخرى، حيث يوفر لها جميعا مياه الشرب والري بشكل أساسي، ويوفر انسياب مساره الهادئ نحو الشمال فرصة جيدة للنقل النهري التجاري.

ويمثل سد النهضة الأثيوبي أزمة وجودية لمصر، لها بالغ الأثر على أمنها القومي، حيث تستطيع إثيوبيا إن أرادت قطع المياه بشكل كلي عن مصر التي لا تتمتع بموارد مائية كبيرة غير نهر النيل، حيث تعاني من ندرة في مساه الأمطار التي لا تتجاوز مليار متر مكعب سنويا، في ظل احتياجات تتجاوز 114 مليار متر مكعب، وهو الأمر الذي يجعل من تحركات إثيوبيا في ملف سد النهضة بمثابة تهديد مباشر لمصر.

يمثل سد النهضة الأثيوبي أزمة وجودية لمصر، لها بالغ الأثر على أمنها القومي، حيث تستطيع إثيوبيا إن أرادت قطع المياه بشكل كلي عن مصر التي لا تتمتع بموارد مائية كبيرة غير نهر النيل، حيث تعاني من ندرة في مساه الأمطار

اتفاق إعلان المبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا

في كانون الأول/ ديسمبر 2015 بمناسبة تدشين مشروعات زراعية صرح عبد الفتاح السيسي في ختام كلمته، موجها خطابه للمصريين: "اطمئنوا، الأمور تسير بشكل جيد، وبشكل مطمئن"، وذلك في تعليقه على المفاوضات الخاصة بسد النهضة والتي تأتي تنفيذا لـ"اتفاقية إعلان المبادئ بين مصر وإثيوبيا والسودان حول مشروع سد النهضة"، التي قام السيسي بتوقيعها في آذار/ مارس 2015، والتي تضمنت عشرة مبادئ ألزمت الدول الثلاث بها أنفسها حسب نص ديباجة الاتفاق.

ويضم الاتفاق مبادئ عامة هي عبارة عن أطر فضفاضة تدور حول حسن النوايا، والحرص على المصالح المتبادلة، والوعود بعدم التسبب في الضرر، والتعاون وبناء الثقة، والتسوية السلمية للمنازعات التي تنشأ بين الدول الثلاث، ولم يتضمن الإعلان بنودا ملزمة بالمعنى الفني المتعارف عليه في المعاهدات، والتي ترتب واجبات أو التزامات ملموسة يمكن التقاضي أو المعاقبة على مخالفتها. لكن أهم بنود الاتفاق تمثلت في بندين، البند الخامس الخاص بالتعاون في الملء الأول للسد وإدارته والذي ألزم إثيوبيا بالملء الأول خلال خمسة عشر شهرا من بداية إعداد الدراسات المشتركة بين الدول، والأمر الثاني تضمنه البند الثامن حول "أمان السد"، إلا أن إثيوبيا لم تراع هذه الالتزامات وخالفت قواعد الملء الأول، كما خالفت كل الاتفاقات اللاحقة حول قواعد ملء المراحل التالية، حتى أن مصر توجهت بخطاب لمجلس الأمن الدولي بعد قيام إثيوبيا بالمرحلة الخامسة من ملء السد التي تمت في أيلول/ سبتمبر 2021، ترفض فيه انفراد إثيوبيا بسياسات أحادية تمثل خرقا صريحا لاتفاق المبادئ وقواعد القانون الدولي.

هكذا سارت الأمور طوال السنوات العشر الماضية، تنفرد إثيوبيا بقراراتها في تنفيذ سد النهضة ضاربة بكل الاتفاقات وعلى رأسها اتفاق المبادئ عرض الحائط، مقابل موقف مصري وسوداني مهتز يشجب ويدين ويرفع مظلمته للمجالس الدولية التي لم تقدم أي استجابة، حتى أتمت إثيوبيا بناء السد وتحكمت بشكل كامل في حصص مياه مصر والسودان.

وهنا يطرأ سؤال مهم حول مدى استفادة إثيوبيا من اتفاق المبادئ. فقد استفادت إثيوبيا من توقيع اتفاق المبادئ مع مصر والسودان في أكثر من اتجاه، أهمها يتمثل في حصول إثيوبيا على إطار "أدبي" ومظلة رمزية لحقها في بناء السد، وموافقة على استحقاقها بشكل منفرد في الإفادة من استثماراتها المتعلقة في النيل، كما أن الاتفاق خفّض حدة الانتقادات الموجهة لإثيوبيا كونها تمتلك بدائل استثمارية له في الوقت الذي لا تمتلك مصر والسودان بدائل حقيقية لمياه النيل، بالإضافة لإسهامه في "تصفير" نجاحات مصر والسودان طوال القرن الماضي في إقناع العالم بالضرر الواقع عليهما إذا فكرت إثيوبيا في إقامة سد على نهر النيل. أخيرا، فإن الاتفاق قد أزال حالة الردع التي كانت ترسخها مصر عبر التهديد باستخدام الخيار العسكري، حيث أسهم الاتفاق في تفويض أدوات الردع المصرية جميعا.

يطرأ سؤال مهم حول مدى استفادة إثيوبيا من اتفاق المبادئ. فقد استفادت إثيوبيا من توقيع اتفاق المبادئ مع مصر والسودان في أكثر من اتجاه، أهمها يتمثل في حصول إثيوبيا على إطار "أدبي" ومظلة رمزية لحقها في بناء السد، وموافقة على استحقاقها بشكل منفرد في الإفادة من استثماراتها المتعلقة في النيل

الحقوق التاريخية في مياه النيل

تتمسك مصر بموقف رسمي يدور حول حقوقها التاريخية المعترف بها في نهر النيل، والتي تنبع من اتفاقيات عديدة بلغت ما يصل إلى 15 اتفاقية مع دول المنبع خلال الأعوام الـ150 الماضية، لكن الاتفاقية الأهم هي اتفاقية 1929 التي وقعتها مصر مع بريطانيا باعتبار بريطانيا دولة احتلال تنوب عن دول السودان وأوغندا وتنزانيا. وترتكز الاتفاقية على خطابات متبادلة بين رئيس الوزراء المصري آنذاك محمد محمود والمندوب السامي البريطاني جورج لويد. وأهم ما ورد فيها الاعتراف بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النيل، وألا تقام أعمال ري أو تنفيذ مشروعات الطاقة بغير اتفاق مع مصر، كما ضمن الاتفاق أفضلية لمصر في الرقابة على النيل في مصر وباقي البلدان الواقعة تحت الاحتلال البريطاني.
 
بعدما استقل السودان عن الاحتلال البريطاني وشكل أول حكومة وطنية له، بدأت مفاوضات مع مصر حول مياه النيل، أسفرت عن اتفاق 1959 بين مصر والسودان على بنود أهمها: إنشاء "السد العالي" في مصر وخزان "الروصيرص" في السودان، وتقاسم مياه النيل بين مصر بكمية 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل والسودان بكمية 18.5 مليار متر مكعب، وبالتالي ترى مصر والسودان أن الحق في مياه النيل ثابت تاريخيا، فضلا عن دعمه بحكم محكمة العدل الدولية الصادر في 1989 والذي يعتبر اتفاقيات المياه المبرمة في منزلة اتفاقيات الحدود التي لا يجوز تعديلها.

في المقابل، فإن دول منبع نهر النيل وعلى رأسها إثيوبيا ترى أن هذه الاتفاقيات التاريخية مجحفة بها ولا تمثل حقوقها العادلة، كما أنها غير ملزمة لها كونها وُقعت وقت الاحتلال، وأنها لم تضع إطار اتفاق شامل لحقوق جميع الدول، بما يمثل أفضلية لدول المصب على حساب دول المنبع، وهو الأمر الذي سعت هذه الدول لتغييره تارة بالاتفاقيات الثنائية، وتارة بمحاولات التجمع المضاد.

اتفاقية عنتيبي

على وقع هذه التباينات بدأت دول المنبع في محاولات لفرض وجهة نظرها في الخلاف، ففي تموز/ يوليو 2009 في الاجتماع الـ17 لدول حوض النيل الذي انعقد في مصر، طرحت دول المنبع (إثيوبيا وكينيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا) إقامة مفوضية لحوض النيل تضم هذه الدول دون دولتي المصب (مصر والسودان)، وهو ما قابلته الأخيرتين بالرفض واستمر الخلاف من وقتها على أشده.

في أيار/ مايو 2010 قررت خمس دول من دول المنبع التوقيع على اتفاقية في مدينة عنتيبي الأوغندية، والتي تسعى لنقل النفوذ من دولتي المصب إلى دول المنبع، وبالتالي عدم الاعتداد باتفاقيتي النيل في 1929 و1959. وبالفعل دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ بعد تصديق الدولة السادسة (جنوب السودان) على الاتفاقية في تموز/ يوليو 2024، لكن رغم دخول الاتفاقية حيز النفاذ فإن كلا من مصر والسودان لا تعتبران الاتفاقية محل إلزام لهما.

تشييد سد النهضة الاثيوبي

لم تكن فكرة تشييد سد النهضة الإثيوبي فكرة مستحدثة، بل كانت حلما قديما أعلن عنه الإمبراطور الإثيوبي "هيلا سيلاسي" عام 1953 عندما أعلن اعتزام إثيوبيا بناء سد كبير على النيل لتوليد الكهرباء، واستعان وقتها بمكتب الاستصلاح الزراعي الأمريكي لعمل الدراسات المسحية، وبالفعل حدد مكتب الاستصلاح الزراعي الأمريكي عدة مواقع من بينها موقع السد الحالي. ومنذ ذلك الحين لم يغب الحلم عن مخيلة الساسة الإثيوبيين، لكنه تأخر على وقع تغيرات طرأت على السلطة هناك، وأعيد الحديث عنه في 2009، حيث أعادت إثيوبيا الدراسات المسحية ووقع الاختيار على الموقع الحالي ومن ثم إسناد الأعمال لشركات دولية بين عامي 2010 و2011، ورصدت إثيوبيا لتشييده مبلغ 5 مليارات دولار، ليصبح السد تنفيذا عمليا لمقررات اتفاقية عنتيبي، وفق مسار إدارة ملف نهر النيل دون مشاورة دول المصب (مصر والسودان).

لكن يبقى السؤال: ما الهدف من إقامة السد؟ وهل له أغراض خفية تهدف لتعطيش مصر؟

تكرر إثيوبيا التأكيد على أن السد ضروري لبرنامج إمدادها بالكهرباء، حيث تصل سعته إلى 74 مليار متر مكعّب من المياه، وهو قادر على توليد أكثر من 5000 ميغاوات من الكهرباء، أي ما يعادل ضعف الإنتاج الحالي لإثيوبيا، وإيرادات تتجاوز مليار دولار، كما يكرر آبي أحمد تصريحه برغبته في ألا يسبب السد قلقا أو مخاوف لدى القاهرة والخرطوم.

في المقابل تكرر الحكومة المصرية موقفها بعدم التفريط في حقوقها التاريخية، وأنها ترفض بشكل قاطع أي محاولات لأن تكون التنمية في إثيوبيا على حساب حقوق دولتي المصب، حسب تصريح وزير الري المصري هاني سويلم. واعتبرت مصر إعلان إثيوبيا عن اكتمال أعمال سد النهضة انتهاكا واضحا للقانون الدولي فيما يخص قواعد الاستخدام المنصف للمجاري المائية الدولية وعدم التضرر في ضرر جسيم. وتتركز مخازف مصر حول احتمالات انخفاض حصة مصر من مياه النيل.

وأعلن مؤخرا بعض الساسة الإعلاميين المحسوبين على النظام المصري، في مقدمتهم الصحفي المقرب من السلطة مصطفى بكري، أن "تشييد سد النهضة يأتي في إطار خطط إقليمية تهدف إلى إيصال مياه نهر النيل لإسرائيل، وأن إسرائيل تستخدم إثيوبيا للضغط على مصر وصولا إلى "إسرائيل الكبرى من النيل للفرات"، فيما ذهب آخرون إلى مطالبة إسرائيل بالوقوف إلى جانب مصر في أزمة سد النهضة، حيث قال السياسي والصحفي أسامة الغزالي حرب: "إن ما فعلته مصر لإسرائيل، منذ مبادرة رئيس مصر الراحل أنور السادات، التي فتحت لها أبواب العالم العربي كله على مصراعيه، تدفعني لمطالبة إسرائيل بموقف أقل تميعا وأكثر وضوحا إلى جانب مصر في معركتها الحيوية بشأن سد النهضة، ليس فقط من خلال علاقتها الوثيقة مع إثيوبيا ولكن الأهم علاقتها الحيوية مع الولايات المتحدة، التي اكتفت في جلسة مجلس الأمن بموقف متميع أيضا يرى في الأزمة مجرد صراع جيو-سياسي بين مصر وإثيوبيا".

هكذا أصبحت أزمة سد النهضة واقعا تعيشه مصر، يهددها في كل لحظة بمصير كئيب، فقد فقدت للأبد دعائم أمنها المائي، وزادت أزماتها الاستراتيجية بعدا جديدا يمثل "فيتو" إثيوبيا على قرارها السيادي، ويهدد مستقبلها السياسي والاقتصادي والمجتمعي، وهو الأمر الذي قدمته مصر على طبق من ذهب عبر مسار مهتز استمر عشرة أعوام بعد توقيع اتفاقها في 2015 بحسن نية، أو بسوء تدبير، أو ربما خيانة وطنية قد يكشفها قادم الأيام.
التعليقات (0)

خبر عاجل