قضايا وآراء

هل يعيد اتفاق الدفاع السعودي الباكستاني رسم خريطة الأمن الإقليمي؟

محمد مكرم بلعاوي
"الاتفاق لا يمكن قراءته كاتفاق ثنائي عابر، بل كجزء من مسار طويل من العلاقات المتشابكة بين البلدين"- واس
"الاتفاق لا يمكن قراءته كاتفاق ثنائي عابر، بل كجزء من مسار طويل من العلاقات المتشابكة بين البلدين"- واس
وقّع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، اتفاقا دفاعيا استراتيجيا مشتركا في الرياض، في 17 أيلول/ سبتمبر 2025، في خطوة وُصفت بأنها نقلة نوعية في مسار العلاقات بين البلدين.

ويأتي هذا الاتفاق في لحظة إقليمية ودولية بالغة التعقيد، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة، والذي طرح تساؤلات عن جدوى الاتفاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، وضمن مساعي الرياض لتنويع تحالفاتها.

هذا الاتفاق لا يمكن قراءته كاتفاق ثنائي عابر، بل كجزء من مسار طويل من العلاقات المتشابكة بين البلدين، شهد مراحل من التقارب والفتور إلى التوتر، خاصة خلال إعلان التحالف العربي والإسلامي الحرب على جماعة أنصار الله في اليمن، وتصاعد الخلافات في عهد رئيس الوزراء السابق عمران خان، وصولا إلى إعادة العلاقة مع شهباز شريف.

كما أنه يعكس إدراك الطرفين لتغير موازين القوى عالميا، ولبروز أطراف جديدة مثل الصين، بما يعزز الحاجة لشراكات استراتيجية أوسع تتجاوز المألوف.

يأتي هذا الاتفاق في لحظة إقليمية ودولية بالغة التعقيد، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة، والذي طرح تساؤلات عن جدوى الاتفاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، وضمن مساعي الرياض لتنويع تحالفاتها

خلفية العلاقات السعودية- الباكستانية

تربط السعودية وباكستان علاقات وثيقة تمتد منذ استقلال الأخيرة عام 1947، إذ كانت الرياض من أوائل العواصم التي اعترفت بها، ووفّرت لها دعما اقتصاديا وسياسيا واسعا.

ومع الوقت، تحولت العلاقة إلى شراكة متكاملة من عدة جوانب، حيث قدمت السعودية مساعدات وقروضا ومنحا لباكستان، فيما استضافت باكستان آلاف العسكريين السعوديين للتدريب، وشارك ضباط باكستانيون في تطوير القدرات العسكرية السعودية، بما في ذلك برامج الصواريخ والدفاع الجوي، كما اعتبرت الرياض إسلام آباد حليفا في مواجهة إيران.

وتأخذ العلاقة بين البلدين بعدا وجدانيا دينيا باعتبار السعودية أرض الحرمين الشريفين، وهو أمر يؤخذ بعين الاعتبار لدى الباكستانيين، وقد أرسلت إسلام آباد قوات عسكرية في فترات مختلفة لحماية المملكة.

وخلال الحرب الباردة، ترسّخت العلاقة بين السعودية وباكستان حين تلاقت مصالحهما في مواجهة التمدد السوفييتي، خصوصا أن كليهما كان يعتبر من المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، حيث كانت السعودية الحليف الأبرز لواشنطن في الخليج، فيما شكّلت باكستان الحليف الرئيسي لها في جنوب آسيا.

وخلال الغزو السوفييتي لأفغانستان (1979)، اصطف البلدان في المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ولعبت باكستان دور القاعدة الخلفية لدعم "المجاهدين الأفغان"، بتمويل سعودي ورعاية أمريكية، وهو ما عزز التنسيق روابط الثقة بين الرياض وإسلام آباد.

كما اعتُبرت حماية الخليج هدفا مشتركا لكل من واشنطن والرياض وإسلام آباد، بما يضمن أمن مصادر الطاقة.

هذه التجربة أسست لإدراك بأن أمن الخليج وجنوب آسيا مترابط، وأن تحالف الرياض وإسلام آباد جزء من منظومة أوسع لحماية المصالح الغربية في المنطقة.

دور السعودية في بناء القدرات الباكستانية

لم تقتصر العلاقات بين السعودية وباكستان على الدعم المالي والسياسي، بل امتدت إلى بناء القدرات العسكرية لإسلام آباد على مدار عقود، وساهمت الرياض بشكل مباشر وغير مباشر في تعزيز مكانة باكستان كقوة إقليمية.

وعلى مدار عقود عملت الرياض على تقديم الدعم المالي وقروضا ومنحا نفطية بأسعار تفضيلية لباكستان لتجاوز أزماتها الاقتصادية المتكررة، مما مكّنها من تخصيص موارد أكبر لبناء جيشها وتطوير بنيتها التحتية.

وأشارت تقارير غربية إلى أن السعودية وفّرت دعما ماليا في مراحل مبكرة لبرنامج باكستان النووي، في إطار رؤية مشتركة لامتلاك "مظلة ردع" إسلامية في مواجهة الهند وإيران.

ونشرت مجلة فورين بوليسي وصحيفة الغارديان تقارير تقول إن السعودية "استثمرت لعقود" في البرنامج النووي الباكستاني، للحصوص على قنبلة عبر إسلام آباد إذا شعرت بتهديد إيراني مباشر.

وساهمت الاستثمارات السعودية في قطاعات الطاقة والبنية التحتية في تعزيز قدرة باكستان على تحقيق استقرار اقتصادي.

بداية توتر العلاقات

شكّلت حرب اليمن نقطة بداية توتر العلاقات بين البلدين، فمع إطلاق عملية "عاصفة الحزم" عام 2015، كانت تتوقع الرياض من إسلام آباد مشاركة عسكرية مباشرة، وهو ما رفضته الأخيرة، حيث صوت البرلمان الباكستاني بالإجماع لصالح قرار يحث الحكومة على التزام الحياد، كما دعا الأطراف المعنية إلى وقف إطلاق النار في اليمن، لكنه أكد دعمه التزام الحكومة بحماية أراضي السعودية، وهو ما اعتبرته الرياض إحراجا لها وتقاعسا من قبل باكستان.

وحاولت باكستان التخفيف من حدة الغضب السعودية من خلال مشاركة قواتها في التدريب العسكري "رعد الشمال" لعام 2016 مع السعودية وحلفائها. لكن السعودية ردت عبر تجميد بعض المساعدات المالية السعودية وتراجع مستوى التنسيق السياسي، كما عملت على التقرب من الهند.

وبعد إقدام الهند على الضم الأحادي لولاية "جامُّو وكشمير" المتنازع عليها مع باكستان في الخامس من آب/ أغسطس عام 2019، نأت الرياض بنفسها، وتجاهلت مطالب وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي لإدانة الضم الهندي أثناء اجتماع خاص لمنظمة التعاون الإسلامي (OIC).

وعلى إثر ذلك، هدَّد قريشي بالتوجُّه إلى ماليزيا وتركيا وإيران، فيما ردَّت الرياض على ذلك بمطالبة إسلام أباد بتسديد مليار دولار على الفور، وهو جزء من 3 مليارات دولار تم إقراضها لباكستان في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018.

عهد عمران خان

تعد فترة حكم رئيس الوزراء السابق عمران خان (2018-2022)، أكثر المراحل توترا في العلاقات بين البلدية، والذي وجه انتقادات علنية للسعودية بعد إلغاء نيودلهي الوضع الخاص لجامو وكشمير عام 2019.

وانتقد خان في كلمته التي ألقاها أمام الجلسة الافتتاحية للدورة الـ48 لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في عام 2022، مواقف المنظمة من فلسطين وقضية كشمير، حيث قال: "لقد خذلنا الفلسطينيين وشعب كشمير على حد سواء. ويحزنني أن أقول إننا لم نتمكن من إحداث أي تأثير على الإطلاق".

وعمل خان على التقرب من تركيا وماليزيا، ومحاولته الانخراط في محور إسلامي جديد إلى جانبهما، وهو أثار حفيظة السعودية التي رأت في ذلك تحديا لدورها القيادي في العالم الإسلامي.

نتيجة لذلك، بدت العلاقات وكأنها فقدت إحدى ركائزها التاريخية، حيث تراجعت الثقة السياسية والاقتصادية بين الطرفين، قبل أن تبدأ مسيرة إعادة ترميمها مع مجيء حكومة شهباز شريف.

الاتفاق الدفاعي الاستراتيجي
الاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني يحمل أيضا رسالة إلى واشنطن بأن الرياض تمتلك بدائل وشركاء آخرين، وأنها ستتحرك وفقا لمصالحها ولن تبقى رهينة للتقلبات الأمريكية

يُعد الاتفاق الذي وُقّع في الرياض بمثابة تحول في مسار العلاقات الثنائية، فهو لا يقتصر على تعزيز التعاون العسكري، بل يضع إطارا شاملا لشراكة دفاعية طويلة الأمد، ويتضمن تعزيز التعاون في مجالات التدريب العسكري، وتبادل الخبرات، وصفقات التسليح، وتوسيع نطاق المناورات المشتركة، وقد يشمل تعاونا في الصناعات الدفاعية الحديثة.

ويعكس توقيت الاتفاق رغبة الرياض في البحث عن شركاء جدد لسد الفراغ الذي يتركه التراجع الأمريكي، ويأتي في ظل تصاعد التوترات في الإقليم، من استمرار الحرب في اليمن، إلى التنافس السعودي الإيراني.

الموقف الأمريكي

مع تزايد تركيز الولايات المتحدة على الصراع مع الصين، وتصنيفها العدو الأول، وتكرار حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عنها، والتصريحات من الإدارة الأمريكية حول تصنيفها الخطر الأكبر على النفوذ الأمريكي، فقد صرح وزير الخارجية الأمريكي الجديد ماركو روبيو، في بداية توليه منصبه، بأن "الصين تمثل التهديد الأكبر للقرن الحادي والعشرين، ولن نقف مكتوفي الأيدي أمام تمدد نفوذها"، مما يعكس توجها أكثر صرامة تجاه بكين. وهذا إضافة إلى تبني إدارة ترامب السياسة الانسحابية للولايات المتحدة من الشرق الأوسط، التي لطالما مثّلت الضامن الأمني التقليدي لمنطقة الخليج، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة بشكل ملحوظ.

هذا التراجع خلق شعورا لدى الرياض بضرورة البحث عن بدائل تقلل اعتمادها المطلق على واشنطن، وتعد باكستان المرشح الأنسب لهذا حاليا، نظرا لتوتر علاقاتها مع واشنطن منذ سنوات بسبب ملف أفغانستان، والتقارب الباكستاني الصيني، وهو ما يمنح الشراكة مع السعودية غطاء سياسيا واقتصاديا يعوّض جزئيا عن فتور العلاقة مع الولايات المتحدة.

كما أن الاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني يحمل أيضا رسالة إلى واشنطن بأن الرياض تمتلك بدائل وشركاء آخرين، وأنها ستتحرك وفقا لمصالحها ولن تبقى رهينة للتقلبات الأمريكية.

دور الصين

يمكن فهم الاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني من منطلق الدور المتصاعد للصين، التي باتت لاعبا رئيسيا تزداد أهميته في المنطقة، فبكين تجمعها علاقات استراتيجية وثيقة بكل من الرياض وإسلام آباد، وتستثمر في تعزيز الاستقرار بينهما لما يخدم مصالحها المباشرة لا سيما مبادرة "الحزام والطريق"، ومصالحها الاقتصادية.

كما أنها تُعد الحليف الأقرب لباكستان، من خلال "الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني" (CPEC)، أحد أهم مشاريع المبادرة، الذي يربط غرب الصين بميناء جوادر الباكستاني على بحر العرب.

وفي نفس الوقت، تعمل الرياض على توسيع شراكتها الاقتصادية مع الصين، خاصة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، كما تعد منطقة الخليج المصدر الأول للطاقة بالنسبة للصين.

وترى الصين استقرار المنطقة ضرورة أساسية لمشاريعها الاستراتيجية، لذلك رعت اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في 2023، كما أن وجود اتفاق دفاعي سعودي باكستاني يعزز شبكة التحالفات التي تستفيد منها الصين، إذ يربط بين أهم شريكين لها في آسيا، ويوفر بيئة أكثر استقرارا لمشاريعها الاقتصادية.

بهذا يصبح الاتفاق ليس مجرد خطوة ثنائية، بل جزءا من معادلة إقليمية أوسع تجد فيها الصين مساحة لتوسيع حضورها، في مقابل التراجع النسبي للدور الأمريكي.

الأبعاد الإقليمية للاتفاق
يحمل الاتفاق الدفاعي بين السعودية وباكستان أبعادا تتجاوز إطار العلاقات الثنائية، ويرسل رسائل متعددة. فمن جانب قد ترى إيران أنها مستهدفة من الاتفاق خصوصا أن باكستان تشترك معها في حدود طويلة ومعقدة، ومن جانب آخر يعطي الاتفاق الرياض خيارات لتعزيز أمنها عبر قوى نووية كبرى مثل إسلام آباد

يحمل الاتفاق الدفاعي بين السعودية وباكستان أبعادا تتجاوز إطار العلاقات الثنائية، ويرسل رسائل متعددة. فمن جانب قد ترى إيران أنها مستهدفة من الاتفاق خصوصا أن باكستان تشترك معها في حدود طويلة ومعقدة، ومن جانب آخر يعطي الاتفاق الرياض خيارات لتعزيز أمنها عبر قوى نووية كبرى مثل إسلام آباد، وهو ما عبرت عنه صحيفة الشرق الأوسط السعودية على لسان هشام الغنام، المشرف على مركز البحوث الأمنية وبرامج الأمن الوطني في أكاديمية نايف للعلوم الأمنية، الذي قال إن الاتفاقية تُعيد صياغة معادلة الردع في الشرق الأوسط من خلال إضفاء الطابع الرسمي على تحالف نووي بين السعودية وباكستان؛ الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة التي تمتلك نحو 170 رأسا حربيا نوويا.

أما صحيفة عكاظ، فرأت في مقال بعنوان "دفاع جوي سعودي.. يكتمل بردع نووي باكستاني"، أن الاتفاقية ليست مجرد تحالف عسكري تقليدي بل "إعادة صياغة معادلة الردع الإقليمي"، مستفيدا من الثقل السعودي بماله واقتصاده وقدرته الدفاعية، وبموازاة ذلك الثقل النووي والعسكري الباكستاني.

وأن السعودية حائط الصد الأول في مواجهة التهديدات الموجهة للخليج، وأن قدراتها العسكرية ومنظوماتها الدفاعية تؤكد أنها قادرة على حماية المجال الحيوي لدول المجلس، وتثبيت معادلة الردع.

أما الهند المنافس التقليدي لباكستان، فتعتبر أي تعزيز للعلاقات بين إسلام آباد والرياض لا تخدم مصالحها، خاصة مع تصاعد التوتر في كشمير، كما أن نيودلهي تراهن على علاقاتها الاقتصادية القوية مع الخليج.

أما داخل مجلس التعاون، فيمكن أن ينظر إلى الاتفاق كخطوة سعودية لتعزيز موقعها القيادي في المنظومة الخليجية، وإرسال رسالة بأنها قادرة على نسج تحالفات عسكرية أوسع من الإطار الأمريكي التقليدي.

الخاتمة

يفتح الاتفاق الباب أمام تعاون أوسع في مجالات التدريب والتسليح والصناعات الدفاعية، ويعزز من قدرة البلدين على مواجهة التحديات الأمنية، ويوجّه رسالة إلى القوى الإقليمية، سواء إيران أو الهند، وإلى الولايات المتحدة بأن السعودية تمتلك خيارات خاصة بها.

ويمكن وصف الاتفاق باعتباره في مسار إعادة تشكيل النظام الأمني للمنطقة، حيث لم تعد واشنطن وحدها اللاعب الحاسم، بل دخلت قوى إقليمية وآسيوية على خط صياغة المستقبل.

ويبقى تنفيذ الاتفاق على أرض الواقع هو الاختبار الحقيقي لمدى نجاح هذه الاستراتيجية، وليس مجرد توقيعه فقط
التعليقات (0)