في ظل الزخم الدولي العارم الذي فرضته تطورات “طوفان الأقصى” المبارك على الجميع، عاد الحديث الدبلوماسي مؤخرا عن مقترح “حلّ الدولتين” ضمن الآليات الممكنة لتسوية القضية الفلسطينية، بغض النظر عن النيّات الحقيقيّة ومدى واقعية هذا الطرح الوهمي.
قبل الخوض في المقترح الباطل، ينبغي الإشارة إلى أنّ تداعي عواصم غربيّة راعية تاريخيًّا للسرطان الصهيوني، وعلى رأسها لندن وباريس، للاعتراف هذه الأيام بدولة فلسطين، لا يخرج عن رؤية “حلّ الدولتين” في أحسن الأحوال، زيادة على خلفياته الخبيثة وغير الخفيّة على كل ذي بصر وبصيرة.
مع ذلك، وجدنا في بني جلدتنا، وبين الأنظمة العربية والإسلاميّة، من يهلل بالمجانّ لمواقف المناورة المكشوفة، بل هناك من يضمّها إلى مكاسب دبلوماسية السلام الكاذب في المنطقة، بحثًا عن سراب يواري به سوءة التقاعس عن نصرة القضية المركزية للأمة.
ليكُن معلومًا من غير تردّد، أن الاعتراف المتأخر بدولة فلسطين ليس أبدا من قبيل صحوة الضمير الأخلاقي والإنساني ولا الامتثال لمسمّى الشرعية الدولية، بل هو تكتيك غربي لتخفيف الضغط العالمي عن
الاحتلال الإسرائيلي، بفعل تداعيات الإبادة المفتوحة في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، والتي أوقعت الكيان الصهيوني في مأزق وجودي غير مسبوق في تاريخه منذ 1948.
رغم تكلفة الدمار الشامل والتهجير القسري وفاتورة الأرواح، فإنّ نبوءة الشهيد يحي السنوار تتجسّد حاليًّا بسقوط السرديات الصهيونية، بل وضْع الكيان الإسرائيلي في حالة صدام مباشر مع المجتمع الدولي وكل الأجهزة الأمميّة، فضلاً عن الإقليم والرأي العام العالمي، ولم يبق من أنصاره إلا “الفيتو” الأمريكي!
هذا المعطى الجوهري هو ما يدفع “بريطانيا بلفور” و”فرنسا بونابرت” للمسارعة بإعلان الاعتراف بدولة فلسطين، مثلما فعل الأمريكيون بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، في محاولة لإنقاذ الكيان الصهيوني من وحل الجرائم الوحشيّة وحصار الشعوب الحرّة وتنامي الوعي العالمي ضدّ خطورته في المنطقة وعلى الإنسانية.
مع ذلك، فإنّ تلك الاعترافات المشبوهة لا تفصح عن طبيعة
الدولة الفلسطينية وشكلها وجغرافيتها وحقوقها، بل هو مجرد إعلان دبلوماسي للاستهلاك الدولي والتملص من عبء الاستحقاق الفلسطيني.
وحتى في حال اضطرارهم، تحت إكراهات الواقع الثوري، فإنهم لن يقبلوا بدولة فلسطينية إلا إذا كانت “مخصيّة”، حيث تقوم على رقعة جد محدودة، بلا سيادة خارجية، منزوعة السلاح، من دون حق عودة اللاجئين ولا القدس الشريف، تكتفي برئيس سلطة للتنسيق الأمني وعلم يرفرف على مؤسسات يحرسها الاحتلال وأجهزة للإسعاف المدني لا أكثر.
هذا النموذج العبثي للدولة الفلسطينيّة هو أقصى ما يمكن أن يروج له الغرب المتصهين، حتى يقطع الطريق على الفلسطينيين في استعادة حقوقهم التاريخية كاملة، في مناورة جديدة لمزيد من التلهية وربح الوقت، بعد عقود عجاف من الزمن الضائع في كواليس مفاوضات التطبيع والسلام التخديري.
منْ يُدرك طبيعة المشروع الصهيوني الاستيطاني الاحلالي، في مرتكزاته العقديّة الدينية اليهودية والاستراتيجية الإمبريالية، يثقُ تمامًا أنّ شذاذ الأرض، ومعهم رعاة الاحتلال، لن يسمحوا بتأسيس دولة فلسطينية على حيّزها التاريخي، لأنّ الصراع وجودي بين الطرفين، فكيف تنشأ دولة على أرض يزعمون أحقيتهم الحصرية والمطلقة في امتلاكها؟
لا نريد العيش أكثر على أوهام الاستجداء
لا يخفى عليكم أنّ المشروع الصهيوني العنصري يعتبر فلسطين دولة لكلّ يهود العالم، وليس فقط لساكنيها المحتلّين، حيث ما زال يتكفّل بتهجيرهم من كل مكان، مقابل توسيع مساحات الاستيطان على الأرض، وطرد من بقي من الفلسطينيين وحرمان اللاجئين من حلم العودة إلى بيوتهم.
لا نريد العيش أكثر على أوهام الاستجداء، لأنّ التعايش مستحيل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو ما يفسّر ردة الفعل الجنونيّة من الاحتلال اليوم على هجوم طوفان الأقصى، لأنهم ينظرون إلى المستقبل الأسود من زاوية “النظرية الأمنية”، معتبرين بقاء الغزاويين في القطاع خطرا وجوديّا ماحقًا لهم ولو بعد قرون، لذلك يريدون الآن إخلاءها عن بكرة أبيها أو على الأقل السيطرة الكاملة على شؤونها.
إذا كان رهان القاعدين عن المقاومة هو الاعتراف الغربي بدولة فلسطينية، فإننا نذكرهم أن قرار التقسيم الأممي الجائر منحها هذا الحق منذ عام 1947، لكن رعاة المشروع الصهيوني أقاموا، بعد أشهر فقط، “دولة” للاحتلال على 80 بالمائة من الجغرافيا الفلسطينية التاريخية، بينما لا يزال الفلسطينيون والعرب يستجدون، طيلة 80 سنة تقريبًا، السماح لهم بتأسيس سلطة سيادية!
خلاصة الموقف هي أن الحديث عن “
حل الدولتين” هو تعلق بخيار مستحيل التحقق واقعيًّا، ليس فقط لأنه لا ينصف الفلسطينيين في حقوقهم المغتصبة، بل لأنّ الكيان الصهيوني لن يقبل به في كل الأحوال، ولن يرضخ إلا في حال انهيار مشروعه الاستيطاني.
لذلك، فإنّ المطلوب، إذا صدقت عزيمة الأمة، أنظمة وقوى حيّة وشعوبًا، هو دعم المقاومة بكل ما هو ممكن عسكريًّا وماليًّا وإعلاميًّا ودبلوماسيًّا وإنسانيًّا، والاستثمار الذكيّ والفعال في ديناميّة الحراك العالمي المناهض اليوم لأجندة الكيان الصهيوني.
إنّ المقاومة هي وحدها الفعل الواقعي لاستنزاف المشروع الصهيوني الإمبريالي الغربي أمنيًّا واقتصاديًّا، حيث ستدفع بالمستوطنين للهجرة في الاتجاه المعاكس بحثا عن حياة الأمان والرفاهية، مثلما تضطر رعاة الاحتلال لإعادة حساباتهم الخاطئة مع المنطقة.
الشروق الجزائرية