إن أصول
الفقه الحضاري تحدد الهدف الذي من أجله تحدثنا عن ضرورة مسارات التنزيل والتفعيل
والتشغيل، وهذا التكوين
المعرفي المقترن بالحركة الواعية والراشدة، المتمثل في علم أصول الفقه الحضاري، يؤسس
دوره في جانبين مهمين: أحدهما حينما يجمع بين عناصر المدخل السباعي في صورة مدخل للقيم
والتي تضمنها كتابنا "مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام،
وثانيهما حينما يجمع بين آليات التفعيل من جانب، ويشكل لها الحاضنة بحيث يجدل بينها
في منظومة تتغيا إحداث علاقة جدلية بين الوحي والواقع، بين المعيار وتنوعات التعامل.
وهو يفعّل هذه الآليات ويحتضنها في مقصد واحد يحقق التناسق بين عناصر هذه الآليات؛
بحيث تؤدي كل آلية دورها المخصوص في عملية ممتدة تتحرك فيها صوب المدخل، وتقدم نماذج
تشغيل متعددة ومتنوعة؛ توضح إمكانات تلك الآليات من ناحية، والقدرات المنهاجية للمدخل
السباعي (القيمي) من ناحية أخرى. هذه النماذج تتحرك من خلال الأصول الجامعة للفقه الحضاري
في مجال مشاريع النهوض ومسلك شهود الأمة الحضاري.
أصول الفقه
الحضاري هو تأصيل المنظور الحضاري بكل سعته وامتداداته، بكل فعله وفاعلياته. كما أنه
تعبير عن أحد أهم تجليات صياغة "النموذج/النظام المعرفي"؛ فإن بناء هذا النموذج
يجب ألا يتم مستقلا عن أصول الفقه الحضاري؛ ذلك أن هذا الأخير (في تكامل عناصر مفرداته
ومستوياته وفي امتداداه ضمن آليات التفعيل، وفي فاعلياته ضمن مجال التشغيل) هو الذي
يحقق لذلك النموذج المعرفي فاعليته على أرض الواقع، بما يقدمه من نماذج اختبارية وتضمينات
منهجية وأدوات بحثية متميزة،
أصول الفقه الحضاري هو تأصيل المنظور الحضاري بكل سعته وامتداداته، بكل فعله وفاعلياته. كما أنه تعبير عن أحد أهم تجليات صياغة "النموذج/النظام المعرفي"؛ فإن بناء هذا النموذج يجب ألا يتم مستقلا عن أصول الفقه الحضاري
وما يؤكد من إمكانية استيعاب الأدوات الصالحة داخل المنظومة
المعرفية الغربية، وتسكينها ضمن عملية استدماج واعية وفاعلة ضمن بنية النموذج المعرفي
في الرؤية الإسلامية، خاصة ما يرتبط منها بأصول الفطرة، والقدر الإنساني المشترك، وقواعد
نظام التعايش ضمن السفينة العالمية (المعمورة) وسنن التعارف.
"أصول
الفقه الحضاري" يجعل من النص/الوحي محوره كعلم أصول الفقه وكل
العلوم التي كانت
آليات الشرعة في الفهم. وإذ اهتم علم الفقه بدوره بوصف الأفعال وفقا لحقيقة التكليف
(افعل ولا تفعل) ضمن نسق من الأفعال الجزئية (أحكام الأفعال)، فإن أصول الفقه الحضاري
يجعل من أهم أهدافه تضمين أهداف علمي الأصول والفقه ضمن منظومة أهدافه، مع الحرص على
صياغتهما ضمن قواعد التفعيل والتوظيف في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو يسير
خطوة أبعد بإضافة موضوعات نظن جدارتها بأن تنضم في كيان معرفي موحد، يمكن أن تُخرج
على شاكلته قواعد أساسية لعلوم الأمة وعلوم العمران (العلوم الإنسانية والاجتماعية
وتطبيقاتها)، وتؤصل هذه العلوم المستلهمة للتوحيد والاستخلاف والعمران.
إن الناظم
المعرفي المتمثل في الجمع بين القراءات، وآليات التوليد الفكري المتمثلة في الاجتهاد
البحثي والتجديد الثقافي، وتكامل المنهج بين فقه النظر وفقه الواقع وفقه التنزيل..
كل تلك الآليات تصب في إطار عام واصل فيما بينها جميعا يمكن تسميته مبحث أصول الفقه
الحضاري. فإذا كان علم أصول الفقه قد اهتم باستنباط الدليل وخدمة ذلك ضمن سياقات مهمة
تتعلق بنظرية الحكم، والفقه الحكمي، فإن علم أصول الفقه الحضاري -إذ يستوعب هذا وذاك
ولا يهمله ولا ينبغي له ذلك- يحرك عناصر متعددة يصل فيما بينها، حتى يمكن صياغة أصول
الفقه العمراني والحضاري. قد نكون أمام متطلبات علم جديد يعني بقضايا، ويسكن مسائل،
ويحرك عناصر تفكير، ومناهج نظر، ومنظومة مفاهيم، وعناصر رابطة واصلة ووسائل قد يلفت
النظر إلى أهميتها وخطورتها، وقضايا متناثرة يرى في الجمع بينها فائدة في بناء مناهج
النظر والتناول والتعامل.
من الواجب
في هذا المقام أن نشير إلى إسهام أكد على المفهوم وكان له فضل نحته وتركيبه، هو إسهام
الشاعر عمر بهاء الدين الأميري؛ الذي أشار إلى ما أسماه الفقه الحضاري، والذي ولّد
منه واشتق عائلة من المفاهيم؛ بعضها قد ينتمي إلى فقه
الحضارة لدى مالك بن نبي. إنه
يحاول ضمن تأصيل معاني الفقه الحضاري أن يعيد تعريف مفهوم الحضارة ذاته، ويتحدث عن
عبقرية الاستيعاب الحضاري وأسس الوجود الحضاري، من ساحة حضارية، وفعالية حضارية، وهيكل
حضاري، وبناء وعمارة الكيان الحضاري، والسلّم الحضاري الذي يشير إلى ترتيب القيم ومنظومتها
وفاعليتها، ويشير إلى واحد من أهم المعاني؛ وهو طاقة البعث الحضاري التي تشير إلى عناصر
التجدد الذاتي في الحضارة والعمران، وكذلك فإنه يشير إلى مفهوم المعترك الحضاري الدال
على التحدي والابتلاء، ليلفت الانتباه إلى عناصر الكدح الحضاري كحركة دائمة ومتواصلة
باحثة عن الفاعلية الحضارية وعناصر التمكين الحضاري.
الفقه
الحضاري عناصر منظومة متفاعلة من الاستيعاب الحضاري والنظر الحضاري، والإدراك الحضاري
والسلوك الحضاري. هذا إذا ما جعلنا من الفقه الحضاري مفهوما نلحقه ببادئة تعني بالأصول:
"أصول الفقه الحضاري". يقول الطوفي: "وأما من حيث اشتقاقه اللغوي فلم
أر فيه شيئا فيما وقفت عليه، غير أنني أحسب أنه من الوصل ضد القطع، وأن همزته منقلبة
عن واو لما في الأصل من معنى الوصل؛ وهو اتصال فروعه كاتصال الغصن بالشجرة حسّا، والولد
بوالده نسبا وحكما، والحكم الشرعي بدليله عقلا. وهذا من الاشتقاق الأكبر، فالأصل هو
الأساس، وهو القاعدة، فأصل الجبل أسفله، وهو منشأ الشيء الذي ينبت فيه".
فبين الأساس
والقاعدة والمنشأ والمبتدأ، والوصل والاتصال، وبين الفقه الحضاري، تعلق يشير إلى معاني
أصول الفقه الحضاري وأهميته وفائدته وثمرته وموضوعاته ومسائله ومناهجه، وهدفه وغايته
ومقصده، كما أن كل ذلك يشير إلى مصادر استمداده، وأصول مرجعيته، ونسبه ونسبته؛ فتحدد
هذه المعاني له المنطلقات، وتعين له المبادئ وتنظم له المسارات، وتشكل له المناهج،
إذ من الضروري النظر إلى عناصر ثلاثة نظرة تكامل وتكافل النص/ الفعل/ الواقع، أو الوحي/
الإنسان الفاعل/ المكان الزمان/ الساحة الحضارية).
إن هذه
الرؤى التي تكون أصول العروة الوثقى التي لا انفصام لها (رؤى التأسيس)، لا بد أن تحرك
جملة العناصر داخل هذا المدخل القيمي، بحيث تجعل القاعدة الأمور بمقاصدها، تعبر عن
فعل حقيقي وعمل منهجي. إن
مقاصد الأمور والوظائف هي التي تحدد قيمة الفعل وإمكانية
تطويره ضمن مدارج الإحسان الحضاري.
إننا غالبا
ما قلنا مرارا وتكرارا إن هناك رؤى ينبغي التأسيس عليها، وربما نكون قد ذكرنا طرفا
منها وبشكل متناثر، إلا أن فعل التأسيس لم يتخذ كل مساراته ولم يستثمر كل قدراته ولم
يمارس كل فاعلياته، بل ظلت هذه الممارسة تكرارية ومتواترة إلى أن قرّ في أذهان البعض
(كحقيقة قارّة) أن هذا الشكل الذي يفصل بين رؤى التأسيس وآليات التفعيل هو من الأمور
التي ينبغي احتذاؤها وعدم الخروج عليها؛ ومن ثم بدا هذا الشكل البحثي الموروث يسد الباب
على كثير من المحاولات التي أرادت أن تحرك الساكن، وتؤصل فعل رؤى التأسيس وفعاليتها،
وظلت هذه الرؤية لا تتفاعل مع أصول مفاهيم قرآنية تزكي عناصر التحريك والوصل بين الوحي
والواقع من مثل: صبغة الله، والعروة الوثقى، الكلمة الطيبة، فطرة الله، والقول الثابت؛
"وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" (فاطر:10)، والسنة الإلهية اللافتة
لكل عمليات التحرك والتحريك الكوني والنفسي والاجتماعي والتاريخي: "إِنَّ اللَّهَ
لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد:11).
لم يعد
يفيد في رؤى التأسيس أن نتحدث عنها في بداية كل عمل بحثي أو علمي أو معرفي -حيث تطغى
معاني الديباجة في تفخيم الألفاظ، ومعاني الزينة، أو لمقتضيات الاستكمال- بل علينا
أن نترجم "رؤى التأسيس" إلى حركة بحثية دائبة تترك تأثيرها على مجالات الحياة
وتنوعاتها، كما تترك بصماتها على كل مجال معرفي أو بحثي، وإطار ونسق مفاهيمي ومنظومة
منهجية. إن استثمار هذه الرؤية في سائر المنتوجات المعرفية، وضمن السياق المعرفي هي
البحث في كل متضمنات وفاعليات التعبير القرآني: "صِبْغَةَ اللَّهِ".
عالم الأفكار وكل ما يتعلق به من عمليات يحتاج منا البصر بكل الفاعليات. إن إحياء عالم الأفكار المخذولة له قوانين، والتعامل مع عالم الأفكار القاتلة له أصوله، والتعامل مع هذه الأفكار -وهي في حالة الحركة لا السكون- يفرض تفاعلات هائلة يجب ألا نقفز عليها أو نتغاضى عنها؛ فإن قوانين الحركة والتغير والنماء والتكاثر غير قوانين الجمود والسكون والانقطاع
إن علم
تحنيط الأفكار لم يعد يجدي أو يفيد في هذا المقام؛ لأن هذا التصور ليس في النهاية إلا
تكريسا لثقافة القبور أو الحفريات، وإن عالم الأفكار وكل ما يتعلق به من عمليات يحتاج
منا البصر بكل الفاعليات. إن إحياء عالم الأفكار المخذولة له قوانين، والتعامل مع عالم
الأفكار القاتلة له أصوله، والتعامل مع هذه الأفكار -وهي في حالة الحركة لا السكون-
يفرض تفاعلات هائلة يجب ألا نقفز عليها أو نتغاضى عنها؛ فإن قوانين الحركة والتغير
والنماء والتكاثر غير قوانين الجمود والسكون والانقطاع. إن سلفنا الصالح تفهموا معاني
الصبغة، فصبغت أصولهم وأعمالهم جميعا، وعرفوا الشريعة كالجملة الواحدة، وتيقنوا أن
رؤى التأسيس لا بد أن تفرض فعلا وأشكالا وتجلياتٍ لهذا التأسيس، تحرك أصول الوعي كما
تدفع إلى مقدمات السعي، والسعي متنوع الحركات والمجالات؛ ومن أهم دوائره على الإطلاق:
الحياة البحثية والعلمية.
إن استئناف
فاعلية هذه المعاني في حركتنا المعرفية والبحثية والساحات الحركية والعملية لا يتأتى
إلا من خلال صياغتها بما يحقق هذه الفاعلية النظرية والمعرفية، وإنْ بإحياء كلمات التأسيس
ضمن فعل التأسيس للسباعية التي أشرنا لها في صدر المقال (الرؤية العقيدية الدافعة،
وأصول الشرعة الرافعة، وقيم التأسيس وقيم الأساس الحاكمة، ومجال الأمة الجامعة، وعناصر
الحضارة الفاعلة، وسنن الكون والنفس والمجتمع والتاريخ القاضية، ومجالات ورتب المقاصد
الكلية العامة الحافظة والحاضنة)؛ هو ما يزكي أصول الفقه الحضاري التي تتصل بعض المستويات
فيه بفقه بناء المعيار وتأسيسه وصياغته كرؤى قابلة للتفعيل والتشغيل ضمن سياقات متنوعة،
وأهمها المجال المعرفي والعلمي والفكري والثقافي والحضاري. فإن المستويات والفئات الأخرى
تعني بفهم الواقع وإمكان مقايسته على المعيار وردّه الردّ الجميل إليه، وملاحظة الانحراف
المعياري وتقويمه -مهما دقَّ أو جلَّ- بمنهج علمي سديد منضبط، يتفهم عناصر الظاهرة
الاجتماعية والإنسانية في خصوصيتها، والظاهرة السياسية والدولية كمجال بحثي يستحق الاهتمام.
مشروع
الانبعاث الحضاري تشرّب هذه المعاني في صياغته المعرفية ومتطلباته الحركية؛ وقدم
رؤية تفعيلية وتشغيلية في مفرداته ومنظوماته؛ في عناصره وتكويناته؛ في تحريكه
وتفعيلاته. ويبدو لنا الأمر في محصلته ومقاصده من أهم مساحات الاستثمار والاعتبار
في مشاتل التغيير في أبعاده النظرية المعرفية، وأبعاده العملية التطبيقية؛ إنها عناصر
شديدة الأهمية تتحقق من خلال تأسيس علم أصول الفقه الحضاري كمنظومة جامعة لعناصر، ومفعلة
لها في البحث، وما يولده ذلك من إمكانات مفاهيمية ومنهجية وتحليلية وتفسيرية وتقويمية،
بل ومن ومسارات تشغيلية ومكنات حركية.
x.com/Saif_abdelfatah