طب وصحة

"خليط من الحمض النووي".. ثورة علمية تنقذ ثمانية رُضّع من أمراض وراثية قاتلة

رغم الترحاب الواسع في الأوساط العلمية والطبية، فإن تقنية "التلقيح بثلاثة آباء وراثيين" لا تخلو من جدل أخلاقي وديني، خاصة في المجتمعات العربية والإسلامية.. الأناضول
أعلن أطباء بريطانيون عن ولادة ثمانية أطفال أصحاء، بعد خضوع أمهاتهم لتقنية حديثة تعتمد على الإخصاب الصناعي باستخدام حمض نووي من ثلاثة أشخاص، وذلك بهدف منع انتقال أمراض ميتوكوندرية وراثية قاتلة.

الإنجاز الطبي الذي تم في مركز متخصص تابع لجامعة نيوكاسل، يفتح باب الأمل أمام آلاف الأسر التي تواجه خطر إنجاب أطفال مصابين بأمراض نادرة وشديدة التأثير، لا سيما تلك المرتبطة بخلل في “الميتوكوندريا”، وهي البنية المسؤولة عن توليد الطاقة داخل خلايا الجسم.

علم ينقذ الأرواح.. وأمهات يكسرن جدار الوراثة

ولد ثمانية أطفال (أربع إناث وأربعة ذكور، من بينهم توأم متماثل) لأمهات يحملن طفرات مميتة في جينات الميتوكوندريا، ولكن بفضل التقنية الجديدة لم تظهر على أي من الأطفال مؤشرات الإصابة. ووفقًا للتقارير الطبية، فإن جميع الأطفال يتمتعون بصحة جيدة، وينمون وفقًا لمعدلات النمو الطبيعية.

التقنية، التي تُعرف باسم "علاج التبرع بالميتوكوندريا" (MDT)، تقوم على نقل المادة الوراثية من نواة بويضة الأم إلى بويضة متبرعة سليمة بعد إزالة نواتها، ثم تخصيب البويضة الجديدة بحيوان منوي من الأب. النتيجة: جنين يحمل الحمض النووي من أمه وأبيه، وميتوكوندريا سليمة من امرأة ثالثة.

أرقام واعدة.. وأمل متجدد

ووفق تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية اليوم، من بين 22 امرأة خضعت للعلاج، تمكنت ثماني نساء من الحمل، فيما أظهرت تقنية أخرى تُعرف بـ”الفحص الوراثي قبل الزرع” معدلات نجاح مماثلة. ورغم نجاح التجربة، أشار الباحثون إلى إمكانية تحسين التقنية لتقليل نسبة ضئيلة من الميتوكوندريا المريضة التي انتقلت خلال الإجراء.

ونقلت الصحيفة عن البروفيسور دوغ تيرنبول، أحد مطوري التقنية قوله: "هذا إنجاز يدعو للفخر والأمل. بعد أكثر من 20 عامًا من البحث، نرى اليوم ثماره تُنقذ أرواحًا صغيرة من معاناة محتومة".

إحدى الأمهات قالت: "كل ما أردناه هو بداية صحية لطفلتنا. بعد سنوات من الخوف والانتظار، أعطانا العلم أملًا.. ثم أعطانا ابنتنا. نحن ممتنون إلى الأبد".

https://www.theguardian.com/science/2025/jul/16/eight-healthy-babies-born-after-ivf-using-dna-from-three-people

هل يصل هذا الأمل إلى مجتمعاتنا؟

بينما يشق هذا الإنجاز طريقه في بريطانيا بعد نقاشات أخلاقية وتشريعية طويلة بدأت عام 2015، لا تزال الأنظمة الصحية في معظم الدول العربية تفتقر إلى الأطر القانونية والعلمية التي تتيح هذا النوع من العلاجات المعقدة.

ويبقى السؤال: هل يمكن للدول العربية الاستثمار في علوم الوراثة الوقائية؟ وهل ستتسع دوائر الفقه والقانون لتقبل تقنيات "الطفل ذو الثلاثة آباء" حين يكون هذا هو السبيل الوحيد لمنع الألم؟

ما بين العلم والدين.. جدل أخلاقي مشروع

رغم الترحاب الواسع في الأوساط العلمية والطبية، فإن تقنية "التلقيح بثلاثة آباء وراثيين" لا تخلو من جدل أخلاقي وديني، خاصة في المجتمعات العربية والإسلامية التي تُولي أهمية كبيرة لمفاهيم النسب و"الخلقة الإلهية".

ففي حين يرى البعض أن هذه التقنية تمثل اعتداءً على "سُنن الخلق" أو فتحًا لباب "التلاعب الجيني"، يعتبرها آخرون امتدادًا مشروعًا للعلاج، لا يختلف جوهريًا عن زراعة الأعضاء أو التلقيح الصناعي، ما دامت تُنقذ حياةً وتُغلق باب الألم.

وفي السياق الإسلامي، لم تُصدر بعد جهات الإفتاء الكبرى فتوى واضحة بشأن هذه الحالة تحديدًا، إلا أن المبدأ الفقهي العام يُجيز التدخل الطبي إذا كان فيه دفع ضرر محقق، بشرط عدم المساس بثوابت النسب أو الوقوع في محاذير شرعية مثل "اختلاط الأنساب".

وبينما يحتدم النقاش في العالم الغربي حول الهوية الوراثية والأبوّة الجينية، قد يتسع النقاش العربي والديني مستقبلًا ليتناول سؤالًا أكثر جوهرية: هل يصبح للرحمة والوقاية من المرض الأولوية، حتى وإن احتاجت إلى مساعدة "أم ثالثة"؟

الميتوكوندريا.. ما هي؟

الميتوكوندريا (Mitochondria) هي عضيّات صغيرة داخل خلايا الجسم، تُعرف غالبًا باسم: "محطات توليد الطاقة" في الخلية.

وظائفها الأساسية:

الميتوكوندريا مسؤولة عن: إنتاج الطاقة على شكل مادة تُدعى ATP (أدينوسين ثلاثي الفوسفات)، وهي الوقود الأساسي الذي تحتاجه الخلايا لتؤدي وظائفها، وتنظيم عمليات الأيض (التحوّلات الكيميائية داخل الجسم)، والمشاركة في موت الخلية المبرمج (عملية طبيعية للتخلص من الخلايا التالفة أو غير الضرورية)، ,المساهمة في بناء بعض المواد المهمة للخلايا مثل الأحماض الدهنية والستيرويدات.

ما يميزها أنها وعلى عكس معظم أجزاء الخلية، للميتيكوندريا حمض نووي خاص بها (mtDNA)، وهو مختلف عن الحمض النووي الموجود في نواة الخلية، ويُورَث حمضها النووي فقط من الأم، وليس من الأب، ولهذا فإن أي طفرات أو أمراض فيه تنتقل من الأم إلى جميع أطفالها.

الأمراض المرتبطة بها:

إذا حدثت طفرات أو عيوب في الحمض النووي الخاص بالميتوكوندريا، فإن ذلك قد يؤدي إلى: فشل عضلات القلب والدماغ، وإعاقات حركية أو ذهنية، وأمراض وراثية قاتلة تظهر غالبًا في الطفولة المبكرة.

ولهذا السبب تم تطوير تقنيات مثل التلقيح الصناعي باستخدام ميتوكوندريا سليمة من متبرعة ثالثة، كما في هذا التقرير، لتفادي انتقال هذه الأمراض.