قبل أسبوع، نشرت الناشطة النسوية
المغربية ابتسام
لشكر صورة لها على وسائل التواصل الاجتماعي، تحمل قميصا كتبت عليه عبارة مسيئة
للذات الإلهية، تقول فيها: "إن الله مثلي" أو للأدق "سحاقي"
في إرادة منها للدفاع عن حقوق المثليين بالمغرب. ونشرت تعليقا على الصورة بلغة
فيها كثير من الفخر، قالت فيها بالحرف: "أنا أتجول بهذا اللباس عبر شوارع
المغرب، وأن الإسلام دين فاشستي، يهين المرأة ويكرس دوينتها".
أثارت هذه التدوينة جدلا كبيرا في وسائل
التواصل الاجتماعي، واعتبرها عدد كبير من وراد التواصل الاجتماعي في المغرب تحديا
لمشاعر المسلمين الدينية واستفزازا لهم، وأن هذه الناشطة تجاوزت كل الحدود، وصار
من الضروري أن يتم تفعيل الإجراءات القانونية ضدها، خاصة وأن القانون المغربي صريح
في تجريم مثل هذه التصرفات.
مصطفى الرميد ينضم للمطالبين بتفعيل القانون
الوزير الأسبق في العدل والحريات، مصطفى
الرميد، هو الآخر دخل على الخط، وكتب تدوينة على حسابه في الفيسبوك اعتبر أن تصرف
ابتسام لشكر يشكل "عملا مدبرا وإساءة متعمدة للذات الإلهية" داعيا إلى
مساءلتها وضرورة تطبيق القانون في حقها حماية للثوابت الدينية.
مصطفى الرميد، شدد على أن ما قامت به ابتسام
لشكر لا يندرج بالمطلق ضمن حرية الرأي والفكر المخالف، بل إنه إساءة للدين، مقترنة
بالقصد والإصرار المبيت، وأن هذا التصرف منها لم يسبق له، ولم يعرف المغرب مثيلا
له من قبل، وذكر بمقتضيات القانون الجنائي في فصله 267-5 الذي يحمي الثوابت
الدينية ويجرم الإساءة إلى الدين الإسلامي ويرتب العقوبة على ذلك.
القيادي الإسلامي أكد بأن تدوينته لا تندرج
ضمن سياق التشدد في مراقبة التصريحات أو تصيد الهفوات، وإنما تأتي في سياق التأكيد
على أنه لا تسامح مع الإساءة المتعمدة للمقدسات، وأن حرية التعبير لا تتسع
للاستهزاء بعقائد الناس واستهداف الذات الإلهية
رسالة الجامعي: حرية الرأي ضد التحريض
النقيب عبد الرحيم الجامعي دخل على الخط
وبعث برسالة إلى مصطفى الرميد، يتهمه فيها بالتحريض على امرأة لمجرد أنها أبدت
وجهة نظرها، وذهب به الأمر إلى اتهام الرميد بأنه كان دائما يؤثر في النيابة
العامة، سواء لما كان وزيرا العدل من باب رئاسته لها، أم لما غادر الوزارة، وصار
يوجه النيابة العام من منصة الشوارع، وبالغ في الاتهام، واعتبر أن الرميد يقوم
بدور المفتي والمرشد والمحرض في الآن ذاته، وأنه كان عليه أن ينتظر قيام النيابة
العامة بدورها، أو للانتصاب كطرف مدني في القضية.
رسالة السيد عبد الرحيم الجامعي تجنبت
التكييف القانوني الصريح لتصرف الناشطة النسوية ابتسام لشكر، وحاولت بمفردات
مختلفة أن تعتبرها مجرد رأي أو رأي مخالف، دون الإشارة إلى رأي القانون في هذه
التصرف وهل هو مجرم بمقتضى الفصل 267-5 من القانون الجنائي أم لا.
جدل قانوني بطعم سياسي وخصومة شخصية
في الواقع، تثير الرسالة التي بعث بها
النقيب عبد الرحيم الجامعي ردا على تصريحات مصطفى الرميد وزير العدل والحريات
الأسبق بخصوص قضية ابتسام لشكر، ملاحظات عديدة، تتعلق بحرية المعتقد، وحرية
التعبير، وكذا التأثير على القضاء.
لا يهم كثيرا السجال بين الرجلين، فقد أرسل
الجامعي رسالته إلى مصطفى الرميد وضمنها اتهامات له بالإفتاء وممارسة الوصاية على
مؤسسة القضاء، وبممارسة التحريض، وقام هذا الأخير بالرد عليه في رسالة سجالية
استمدت حججها من القوانين المغربية، ومن المواثيق الدولية، لكن ما يهمني بدرجة
أساسية، هو تكييف الواقعة، وموضعتها في السياق المغربي، بأبعاده المختلفة
القانونية والاجتماعية والثقافية والدينية.
السيدة ابتسام لشكر، ناشطة نسوية، أسست حركة
مالي للدفاع عن
الحريات الفردية سنة 2009، وهي تقر في أكثر من حوار إعلامي بأنها
تفعل ذلك من باب الاستفزاز، وأن هذا هو الأسلوب الوحيد الذي يحدث نقاشا عموميا،
ويدفع بقضية المرأة والحريات الفردية إلى الأمام.
في رسالته، يؤاخذ النقيب الجامعي على مصطفى
الرميد أنه لم يغير أسلوبه في التأثير على النيابة العامة وإنما غير فقط موقعه،
فحينما كان وزيرا كان يؤثر على النيابة العامة بوصفه رئيسا لها، واليوم، يؤثر
عليها من خلف حجاب، عبر منصة الشارع، وأن تدوينته أشعلت نار الكراهية ضد امرأة
وبسبب ذلك قامت النيابة العامة بتحريك المتابعة القانونية في حق ابتسام لشكر.
كان المفترض، وبعيدا عن منطق السجال وربما عن تصفية حسابات لا نعرفها، أن يتم طرح النقاش الفكري والقانوني بشكل واضح وصريح، وأن يتم تحرير المقال فيما قامت به السيدة ابتسام لشكر، وهل يدخل في إطار حرية الرأي أم يندرج ضمن إطار آخر؟
في واقع الأمر، لا يستطيع السيد النقيب أن
يجزم بحصول هذه السببية، فالسيد مصطفى الرميد لم يكن السباق لإثارة الانتباه
للصورة التي نشرتها الناشطة النسوية ابتسام لشكر، فقد نشر تدوينته يوم الأحد
الماضي، بينما الجدل أثير حول الصورة قبل ذلك بيوم على الأقل، فالسيدة لم تكتف
بارتداء القميص المسيء للذات الإلهية، بل كتبت في وسائل التواصل الاجتماعي، تقول
بأنها "تتجول بهذا اللباس بالمغرب"، وأن "الإسلام دين فاشستي ومهين
للمرأة ويكرس دونيتها".
لا يستطيع السيد النقيب أن يحرم أي مواطن،
كيفما كان، من حقه في الدفاع عن دينه التعبير برأيه، ما دامت حرية التعبير مكفولة
له، ولا تعتبر الدعوة إلى تطبيق القانون بأي شكل من الأشكال تدخلا في النيابة
العامة ولا في القضاء، لأن سلطة التكييف تعود في نهاية الأمر للجسم القضائي، وليس
لأي شخص سواء كان وزيرا أو مجرد مواطن يقول رأيه في منصة الشارع على حد تعبير
السيد الجامعي.
كان المفترض، وبعيدا عن منطق السجال وربما
عن تصفية حسابات لا نعرفها، أن يتم طرح النقاش الفكري والقانوني بشكل واضح وصريح،
وأن يتم تحرير المقال فيما قامت به السيدة ابتسام لشكر، وهل يدخل في إطار حرية
الرأي أم يندرج ضمن إطار آخر؟
رسالة السيد عبد الرحيم الجامعي، رفضت الخوض
بشكل مباشر في هذا التمرين، وفضلت بطريقة ضمنية سجالية أن تكيف ما قامت به الناشطة
النسوية بوصفه "رأيا وجدلا لا تمنعه ديانة ولا عقيدة ولا عقل" وبوصفه
مرة أخرى بـ"الفكر والقناعات والسلوك" وتنسبه مرة أخرى لدائرة الخلاف في
الرأي، فالنقيب الجامعي لم تسمح له الخصومة مع الرميد أن يدخل إلى صلب النقاش
الحقيقي، سواء بالتكييف الفكري، أم بالتكييف القانوني.
في الواقع، لو اكتفت السيدة ابتسام لشكر
بوصف الإسلام بأنه يمس بحقوق المرأة، أو يكرس دونيتها، أو حتى يهينها، وقدمت ما
يدعم تأويلها، لما تردد أحد ـ من زاوية الفكر وليس من زاوية القانون ـ في أن يكيف
قولها ضمن حرية الرأي والتعبير، فقد طفحت كتب المستشرقين، وعدد من الليبراليين
العرب بمثل هذه الآراء، وما تعرض لهم أحد، ولا دعا إلى محاكمتهم، إلا ما كان من فئة من المتطرفين الذين لم
يستأنسوا بالقدرة على ممارسة النقد الفكري، ولا تَشَربوا أسلوب العلماء في مدافعة
مثل هذه
الأفكار، لكن، في واقعة ابتسام لشكر، يبدو الأمر، بعيدا عن هذا التكييف
الفكري، إذ ليس هناك أي تأويل يمكن أن
يدفع به لتكييف ما قامت به من سب للذات الإلهية على أساس أنه رأي فكري، وأن
التعبير عنه في الفضاء العام أو بالأحرى حمله في صورة القميص منشور بشكل علني في
وسائل التواصل الاجتماعي، يندرج ضمن حرية التعبير.
بالتكييف القانوني، يبدو الأمر أكثر وضوحا،
فالقانون الجنائي صريح في تجريم فعلها، لأنه يتعلق بسب الذات الإلهية، فالفصل
267-5 واضح في تجريم الإساءة بالدين الإسلامي، وترتيب العقوبة على ذلك، وتغليظها
في حال نشرها بصورة علنية وسائل التواصل الإلكتروني، ولا أظن أن أحدا من
القانونيين، بما في ذلك النقيب عبد الرحيم الجامعي نفسه، يتردد قيد أنملة في تكييف
ما قامت به هذه الناشطة بوصفها ارتكبت جريمة يعاقب عليها هذا الفصل من مدونة
القانون الجنائي.
واضح أن السيد النقيب، يدرك خطأ هذه
الناشطة، ويريد أن يحور النقاش من تكييف الواقعة، إلى قضية أخرى شخصية تتعلق
بالتأثير على القضاء، من خلال تدخل السيد مصطفى الرميد بتدوينة في الموضوع، كما
ولو كان محروما من حقه في مجرد التعبير، إذ كان يفترض الأمر حسب السيد النقيب، أن
يكف الجميع عن التعبير عن الاستياء مما قامت به هذه الناشطة، وأن يتركوا للنيابة
العامة وحدها أن تتحرك من غير توجيه من أحد، مع أن منطق الدولة الحديثة، يقوم على
أساس دور الرأي العام في حفز النيابة العامة على القيام بدورها، فالفضائح التي
تثار في المجال العام، إنما تثيرها
الصحافة وآراء الناس وملاحظاتهم، إذ يستحيل في حق النيابة العامة أن تكون محيطة
بكل ما يجري في الفضاء العام، فكان دورها أن تتبع ما ينشر وأن تكيف الحالات التي توجب تدخلها من الحالات التي لا توجب،
وتقرر المتابعة طبقا لضميرها المهني لا بتوجيه أو وصاية من أحد .
أحمد عصيد يزيد الطين بلة
الغريب وربما الكاريكاتويري في الأمر، أن
بعض المثقفين، في سعيه لإدانة حق مصطفى الرميد في التعبير عن رأيه في الموضوع،
احتج بأن المستهدف في حالة ابتسام لشكر هو الذات الإلهية، وأن الله قادر على
الدفاع عن نفسه، وليس في حاجة للسيد مصطفى الرميد، وأنه لو شاء لعاقبها لوحده من
دون حاجة لكي ينتصب الرميد للدفاع عنه والحديث باسم السماء، وفي هذه الحالة، سيكون
من العسير أن يكشف لنا السيد أحمد عصيد كيف يمكن تطبيق هذا الفصل القانوني المدرج
ضمن مدونة القانون الجنائي، فالنيابة العامة – بحسب منطقه نفسه- لن يكون لها الحق
في متابعة أي شخص أساء للدين الإسلامي أو أهان الذات الإلهية، لأن قدرة الله –حسب
منطق السيد أحمد عصيد- لا تقبل أن يكون أحد وصيا عليها بما في ذلك النيابة العامة.
حداثة الجوهر والحداثة المشوهة
لا نريد أن نرد على هذا العبث في التفكير،
لأن شرط الوضوح الفكري منتف في هذه الحالة، ولو كان الإنصاف والمنطق هو الحاكم،
لتساءلنا عن علاقة هذه التصرفات الطائشة من مثل ما أقدمت عليها الناشطة النسوية
ابتسام لشكر بجوهر الحداثة ومضمونها، فحري بمثقفي الحداثة أن يضعوا المسافة
الكافية بين المضمون الحداثي الحقيقي وبين عبث الأطفال والعناصر المنتقاة من زبالة
الحداثة المشوهة ".
بعض المثقفين، في سعيه لإدانة حق مصطفى الرميد في التعبير عن رأيه في الموضوع، احتج بأن المستهدف في حالة ابتسام لشكر هو الذات الإلهية، وأن الله قادر على الدفاع عن نفسه، وليس في حاجة للسيد مصطفى الرميد، وأنه لو شاء لعاقبها لوحده من دون حاجة لكي ينتصب الرميد للدفاع عنه والحديث باسم السماء
في المغرب، تجربة قوية للتعايش بين أبناء
الوطن الواحد، تمزج بين أصالة البلد وتراثه وبين السعي الحثيث نحو الدمقرطة
والتحديث، نجحت في أكثر من مناسبة، وتكسب عمقا وفرادة، وتستلهم شعوبا أخرى، لا
تزال تخطئ الطريق لتجسير الفجوات بين مكوناتها الاثنية والطائفية والدينية
والإيديولوجية، وحين تفقد البوصلة، وتنظر إلى تجربة هذا البلد، تسأل عن الصيغة
التي بلورها المغرب عبر السنين: صيغة
الإسلام المعتدل، والسعي المتقدم نحو التحديث، والتعايش بين العرب الأمازيغ،
والاندماج لكل الطيف السياسي بما في ذلك الإسلاميين، وصيغة التدبير الأمثل للعلاقة
بين الدين والدولة.
على مثقفي الحداثة أن يحسموا أمرهم،
ويبتعدوا من التردد الذي يطبع سلوك بعضهم، فإما أن يختاروا بكل وضوح بين دعم هذه
التجربة القوية الممانعة بجميع مقوماتها، وإما أن يتنكروا للمضمون الحداثي الحقيقي
ويستبدلوه بعبث الأطفال بقمامة الحداثة المشوهة.
حرية الفكر والاستفزاز بالإساءة
كثير من المثقفين والمستشرقين والليبراليين
العرب خاضوا في النصوص الشرعية، وذهب بعضهم حد إنكار الوحي، أو إثبات تاريخية
النص، واستعان آخرون بمفهوم "أسباب النزول" لإثبات بشرية النص، وكتب آخرون ينكرون وجود قصص في القرآن الكريم
كما فعل طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي متأثرا بالمستشرق مارجليوث، بل إن عددا
من مثقفي الحداثة بالمغرب ذهب بهم الأمر حد الادعاء بأن القرآن يتضمن أساطير لا
يؤكدها العلم كما ذهب إلى ذلك أحمد عصيد، وبعضهم أنكر الإسراء والمعراج، لكن لا أحد
أخرج هذه الآراء من دائرة حرية الرأي حتى وبعضها لم يستند إلى أي دليل علمي سوى ما
كان من التحكم، لأن الفاصل بين حرية الرأي
وبين الإساءة والاستفزاز لا يمكن أن تخطئه العين، خاصة إذا كان القصد والتعمد
مصرحا به من قبل القائم بالتصرفات المسيئة للدين ولرموزه وللذات الإلهية.
بعض مثقفي الحداثة يدركون أن هذه التصرفات
تحرجهم، وتحرج بوجه خاص انتماءهم لسياقهم الثقافي، ومع ذلك، يفقدون الجرأة والوضوح
الكافي لبيان الفرق بين حرية التعبير وما يندرج ضمنها، وبين الإساءة التي تستهدف
هدم أسس الاجتماع وقواعده.
البعض منهم كان صريحا في إدانة هذه الإساءة
للدين، معتبرا القائمين بهذه التصرفات لا يحملون من الحداثة إلا عبثها والصورة
البئيسة منها، لكن الغالبية العظمى من مثقفي الحداثة، فضلوا الصمت، خوفا من أن
يصير انتماؤهم للسياق الثقافي والاجتماعي المغربي محل مساءلة، أو خوفا من أن
ينسبوا إلى أعداء الحرية، وقسم "بين بين" من هؤلاء، انتقدوا مثل هذه
التصرفات المسيئة للدين، لكنهم لم يروا ضرورة للتعامل معها بسيف القضاء.