صحافة دولية

FP: الصين تتقرب من الجنوب العالمي دون أن تُقنعه بالكامل

تُمكّن إمكانات الصين كمنافس للولايات المتحدة من تعزيز التعددية- جيتي
نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، مقالا، للزميل الاستشاري الأول في تشاتام هاوس، غالب دالاي، ومنسق برنامج تركيا المعاصرة، ودينو باتي جلال، مؤسس ورئيس "مجتمع فورين بوليسي" في إندونيسيا والسفير الأندونيسي السابق للولايات المتحدة، قالا فيه إنّ: "التنافس بين القوى العظمى يُشكل الإطار الشامل للسياسة الدولية اليوم".

وأوضح المقال الذي ترجمته "عربي21" أنّه: "نظرا لقلق الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، من انخراط الصين المتزايد في معظم أنحاء العالم، فإنه ينظر إلى بكين كمنافس منهجي واستراتيجي يجب مواجهته، وهو ما يشبه مخاوف حقبة الحرب الباردة من انتشار النفوذ السوفيتي".

وتابع: "تُشكل نوايا دحر أو موازنة الهيمنة الصينية الآن، الاستراتيجيات الغربية تجاه الجنوب العالمي. وأصبح إجبار الدول على الاختيار، استراتيجية شائعة، لكن الجنوب العالمي لن يتخلى عن الصين أو يتخذ خيارات ثنائية"، مضيفا: "في انعكاس صارخ لهذا الأمر، حذّر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب من أن أي دولة "تتبنى سياسات البريكس المعادية لأمريكا" ستواجه تعريفات جمركية إضافية".

وأشار المقال أيضا إلى ما صرّح به كبير مستشاري الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، سيلسو أموريم، بأنّ هذه التهديدات "تعزّز علاقاتنا مع البريكس، لأننا نريد علاقات متنوعة لا نعتمد فيها على أي دولة واحدة".

وأورد: "في ظل غياب الرؤى المتنافسة للسياسة العالمية والتنظيم الاقتصادي التي ميّزت الحرب الباردة، من المرجح أن تأتي محاولات الترهيب الأمريكية لكبح نفوذ الصين في العالم غير الغربي بنتائج عكسية. على العكس من ذلك، فإن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب وازدرائه للقواعد والأعراف، إلى جانب تراجع القوة الناعمة للغرب، يعززان من نفوذ الصين ويساعدان جهودها لإعادة تعريف الجنوب العالمي، الذي تُعدّ جزءا لا يتجزأ منه، ككتلة غير غربية أو حتى معادية للغرب".

"تميل دول الجنوب العالمي إلى قبول الأسعار، وفي عالم قائم على المعاملات، تُقدم الصين أكثر من أي قوة عظمى أخرى. وينطبق هذا بشكل خاص على دول جنوب شرق آسيا، حيث لا تزال البنية التحتية قيد التطوير. وبصفتها قوة عظمى في مجال البنية التحتية، تُلبي الصين مباشرة إحدى الاحتياجات الرئيسية لدول الجنوب العالمي" وفقا للمقال نفسه.

وأشار إلى أنها: "قد أنفقت أكثر من 1.3 تريليون دولار على مشاريع مبادرة الحزام والطريق (BRI) في دول الجنوب العالمي على مدار العقد الماضي، وهو ما يتجاوز بكثير استثمارات نظرائها في مشاريع مثل البوابة العالمية الأوروبية، والإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (IPEF) للولايات المتحدة، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي الروسي".

وأكّد: "هذا لا يعني أن جميع مشاريع الصين تسير بسلاسة. ففي سريلانكا وباكستان وميانمار وماليزيا وكينيا وزامبيا، نشأت قضايا مختلفة، بما في ذلك ضائقة الديون والوقوع في فخ، وتضخم التكاليف، والاعتماد الكبير على العمال الصينيين، ومشاكل الحوكمة، والمخاوف الأمنية، والمعارضة الداخلية. ومع ذلك، أظهرت الصين مرونة في تعديل برامجها لتتلاءم مع ظروف الدول المضيفة". 

واسترسل: "تحاول الصين الآن مواءمة مبادرة الحزام والطريق مع أجندة الاتحاد الأفريقي 2063، وهو إطار استراتيجي لتحويل القارة على مدى السنوات الخمسين المقبلة"، مردفا: "ترى الصين أن تراجع إدارة ترامب عن الالتزامات العالمية وتوقعات القوة الناعمة فرصة للاستفادة منها. وبينما أُغلقت مكاتب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) حول العالم هذا العام، بلغت قيمة العقود والاستثمارات الصينية المتعلقة بمبادرة الحزام والطريق 125 مليار دولار".

إلى ذلك، أضاف: "على الرغم من أن استثمارات الصين في مبادرة الحزام والطريق أصبحت أصغر وأكثر استهدافا، فقد شهد النصف الأول من عام 2025 أعلى مشاركة على الإطلاق في مبادرة الحزام والطريق لأي فترة ستة أشهر، حيث شهدت أفريقيا وآسيا الوسطى أكبر قدر من الاستثمارات". 

ومضى بالقول: "كما أن الولايات المتحدة ليست وحدها في هذا المجال أيضا. وإن لم يكن تراجعها بنفس القدر من الحدة، إلا أن المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا تُقابله بخفض ميزانيات مساعداتها لتحويل الموارد إلى الإنفاق الدفاعي، مُعطية الأولوية لقوتها الصلبة على قوتها الناعمة".

وأبرز أنّ: "الصين نفسها لديها قوة ناعمة محدودة. قد يهتم الناس بمنتجاتها، لكنهم لا يهتمون بنفس القدر بأسلوب الحياة الصيني أو المنتجات الثقافية. ومع ذلك، فإن أحد المصادر الرئيسية للقوة الناعمة للصين اليوم ينبع من فقدان الولايات المتحدة لاستثنائيتها وجاذبيتها"، مضيفا: "ليس من المستغرب إذن أن تكشف استطلاعات الرأي المختلفة التي أجراها مجتمع السياسة الخارجية في إندونيسيا ومعهد ISEAS-Yusof Ishak في سنغافورة أن عددا أكبر من سكان جنوب شرق آسيا يربطون اليوم مستقبل اقتصاد منطقتهم بالصين أكثر من الولايات المتحدة أو أوروبا".

وأورد: "تظهر صورة مماثلة في المجال الدبلوماسي. فبينما يواصل ترامب تطبيق أجندته "أمريكا أولا" ويهاجم المؤسسات والاتفاقيات متعددة الأطراف، يجد الجنوب العالمي أن خطاب الصين عن "المستقبل المشترك" و"الاحترام المتبادل" أكثر جاذبية. كما أثمرت جهود الصين طويلة الأمد لتقديم نفسها كشريك موثوق، وأنشأت منتديات للتعاون مع جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأفريقيا والشرق الأوسط".

"مستغلة التراجع الأخلاقي والمادي النسبي للولايات المتحدة والغرب، تُعيد الصين تعريف الهوية الجيوسياسية للجنوب العالمي على أنها غير غربية، وتُقدم نفسها كجزء لا يتجزأ منها. في مؤتمر صحفي عُقد في 7 آذار/ مارس، صرّح وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، قائلا: الصين بطبيعة الحال عضو في الجنوب العالمي، لأننا حاربنا الاستعمار والهيمنة معا عبر التاريخ، ونحن ملتزمون بالهدف المشترك المتمثل في التنمية والإنعاش" وفقا للمقال نفسه.

وأضاف: "وبالمثل، في الوقت الذي يُثير فيه ترامب مخاوف وقلقا واسع النطاق من خلال حروبه التجارية وفرضه رسوما جمركية على دولة تلو الأخرى، أعلنت الصين عن إلغاء جميع الرسوم الجمركية على 53 دولة أفريقية تربطها بها علاقات دبلوماسية. يحمل الإعلان، الذي نُشر على موقع وزارة الخارجية الصينية، عنوان إعلان تشانغشا الصيني الأفريقي حول دعم التضامن والتعاون بين دول الجنوب العالمي".

وأبرز: "ينظر الكثيرون في دول الجنوب العالمي إلى الصين كدولة نامية مُماثلة. وبينما ترى الولايات المتحدة في صعود الصين تهديدا، فإن العديد من الدول النامية تستلهم من نجاحها وتسعى إلى محاكاته. ونصح الرئيس الإندونيسي السابق جوكو ويدودو حكومته ذات مرة بالتعلم من استراتيجية التنمية الصينية".

وتابع: "أظهر استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2024 على أشخاص في 35 دولة انقساما في الآراء حول تأثير الصين. رأى المشاركون في الدول ذات الدخل المرتفع التأثير الاقتصادي للصين على بلدانهم بشكل أكثر سلبية، وكان الأمريكيون الأكثر سلبية بنسبة 76%. في المقابل، رأى المشاركون في الدول متوسطة الدخل ذلك بشكل أكثر إيجابية، مثل حوالي ثلثي الماليزيين والنيجيريين الذين يحملون نظرة إيجابية".

وأوضح: "ثمّة ما يبرر هذا التبسيط. فخطاب الصين واستراتيجيتها المتمثلة في اعتبار الجنوب العالمي غير غربي وتأطير نفسها كجزء لا يتجزأ منه لا يعنيان توافق مصالحهما. ففي مناسبات عديدة، كانت الصين ودول الجنوب العالمي على طرفي نقيض. ومن الأمثلة على ذلك موقف الصين من الإطار المشترك لمجموعة العشرين لمعالجة ديون الدول منخفضة الدخل. وبصفتها أكبر مُقرض ثنائي للدول النامية، لم تكن الصين مستعدة للمشاركة في إعادة هيكلة الديون متعددة الأطراف ما لم يوافق البنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية على شطب قروضها".

واسترسل: "في الوقت نفسه، تُمكّن إمكانات الصين كمنافس للولايات المتحدة من تعزيز التعددية القطبية، التي يراها العديد من القوى المتوسطة والجهات الفاعلة في الجنوب العالمي شرطا منهجيا ضروريا لوكالتها السياسية العالمية. تسعى العديد من دول الجنوب العالمي، حتى تلك التي لديها اتفاقيات عسكرية مع الغرب مثل الهند، إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي من خلال التعددية أو التحوط، معتبرة العالم متعدد الأقطاب وسيلة لتعزيز استقلالها".

وأبرز: "كما تخشى دول الجنوب العالمي من أن الخيارات الاستراتيجية الواضحة قد تُورّطها في سياسات الكتل، ما يُعرّضها لمزيد من التشرذم الإقليمي. وشكّلت الحرب الباردة هذا القلق جزئيا، عندما أدت الكتل ثنائية القطب إلى زيادة الاستقطاب والانقسام الإقليمي".

"ضمت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، تماشيا مع موقفها الرافض للانحياز إلى أي طرف، كلا من الولايات المتحدة والصين في شراكة استراتيجية شاملة. كما تعاونت مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، بالإضافة إلى منتدى التعاون الاقتصادي الدولي (IPEF) الأمريكي" وفقا للمقال نفسه.

إلى ذلك، أورد: "بينما يعاني الشرق الأوسط حاليا من استقطاب إقليمي داخلي وتنافسات مثل الصراع الإسرائيلي الإيراني والتنافس بين إيران ودول الخليج، فإن معظم الجهات الفاعلة الإقليمية لا ترغب في إضافة بُعد عالمي إلى توتراتها الإقليمية الحالية. لا تزال الولايات المتحدة هي الفاعل الأمني الإقليمي الأبرز، لكن الصين أصبحت الآن أكبر شريك تجاري، وخاصة للخليج".

واسترسل: "في قمة مجموعة العشرين لعام 2023 في نيودلهي، أعلنت الولايات المتحدة عن الممر الاقتصادي الهندي- الشرق الأوسط- أوروبا، وهو مشروع ربط إقليمي رئيسي يهدف إلى منافسة مبادرة الحزام والطريق والحد من نفوذ الصين الإقليمي. ومع ذلك، لا ترى الدول الإقليمية أي تناقض في المشاركة في كليهما، معتقدة أن المشاركة في مشاريع متعددة تقلل الاعتماد على دولة واحدة وتزيد من المرونة".

واختتم بالقول: "ركّزت الصين على جعل نفسها خيارا موثوقا وجذابا لدول الجنوب العالمي دون إجبارها على الاختيار بينها وبين الولايات المتحدة. في المقابل، تضغط الولايات المتحدة عليها لاتخاذ خيار ثنائي دون استثمار حقيقي في جعل نفسها خيارا أفضل. بالنسبة لدول الجنوب العالمي، فإن رواية الصين أكثر جاذبية لأنها تعتقد أن مصالحها تتحقق بشكل أفضل من خلال نظام دولي يوفر خيارات متعددة بدلا من نظام يُجبرها على اختيار جانب أو آخ".