قضايا وآراء

حين يسقط الفاسدون: ماذا تعلّم حكامنا من انتفاضة نيبال؟

"السلطة تفقد قوتها حين يفقد الناس خوفهم؛ فلا الثروة ولا الألقاب قادرة على حماية الفاسدين إذا انهارت شرعيتهم"- جيتي
لم تكن المشاهد القادمة من نيبال في الأسابيع الأخيرة مجرد أخبار عابرة تُقرأ سريعا ثم تُطوى صفحتها. فقد بثّت وسائل الإعلام الدولية لقطات صادمة لمواطنين غاضبين يطاردون مسؤولين وأثرياء متهمين بالفساد، وينتزعون منهم رموز السلطة والوجاهة. بعضهم أُجبر على خلع ثيابه في الشوارع، في لحظة إهانة عميقة جسّدت الانهيار الدرامي لمكانتهم ونفوذهم.

هذه اللحظات لم تولد فجأة، بل كانت ثمرة سنوات من الفساد المستشري، واحتكار الثروة، وغياب العدالة. وحين تُغلق مسارات الإصلاح، ويُمنع الناس من حقهم في محاسبة المتورطين، فإن الغضب يتراكم بصمت إلى أن ينفجر. وقد انفجر بالفعل في نيبال، معلنا أن صبر الشعوب ليس أبديا.

مرآة للآخرين
ثمرة سنوات من الفساد المستشري، واحتكار الثروة، وغياب العدالة. وحين تُغلق مسارات الإصلاح، ويُمنع الناس من حقهم في محاسبة المتورطين، فإن الغضب يتراكم بصمت إلى أن ينفجر. وقد انفجر بالفعل في نيبال، معلنا أن صبر الشعوب ليس أبديا

ما جرى في كاتماندو ليس حدثا محليا معزولا، بل مرآة مرفوعة في وجه العالم بأسره. الرسالة واضحة: زمن الإفلات المطلق من العقاب قد انتهى، فمهما بدا الناس خاضعين أو صامتين، فإنهم يحتفظون دائما بالقدرة على قلب المعادلة عندما تحين اللحظة.

صدى الربيع العربي

بالنسبة لنا في العالم العربي، أيقظت صور نيبال ذكريات لا تُنسى. ففي العام 2011 خرج الملايين إلى شوارع تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، يرددون بصوت واحد: "الشعب يريد إسقاط النظام". حينها بدا وكأن عهد الاستبداد والفساد يوشك على الأفول،

لكن ما تلا ذلك جاء بعيدا عن الأحلام. فقد واجهت الانتفاضات الشعبية قمعا دمويا، وتدخلات خارجية، وانتهت في كثير من الحالات بثورات مضادة. تحولت الآمال إلى خيبات، وفي بعض البلدان إلى حروب مدمرة، فبدا وكأن لحظة النور لم تكن سوى استراحة قصيرة في ليل طويل.

غير أن نيبال تذكّرنا بأن التاريخ لا يسير بخط مستقيم، صحيح أن الموجة الأولى من الربيع العربي تعرضت لانتكاسات، لكن روحها ما زالت حيّة. وما شهدناه في شوارع نيبال دليل على أن إرادة الناس قد تعود متى شاءت، وأن حساب الفساد قد يتأخر لكنه لا يُلغى.

حين يتبخر الخوف

أقسى درس تقدمه نيبال هو أن السلطة تفقد قوتها حين يفقد الناس خوفهم؛ فلا الثروة ولا الألقاب قادرة على حماية الفاسدين إذا انهارت شرعيتهم. أولئك الذين كانوا موضع رهبة وهيبة، وجدوا أنفسهم فجأة مجرّدين -بالمعنى الحرفي والمجازي- من مكانتهم، منكشفين أمام شعوبهم كأشخاص ضعفاء لا يملكون سوى سجلّهم المثقل بالظلم.

وهنا يطل السؤال على عالمنا العربي: هل يدرك الحكام الذين راكموا ثروات طائلة بينما أفقروا شعوبهم أن لحظة المحاسبة قد تأتي بغتة، وبأشكال لم تخطر لهم على بال؟

بالنسبة للحكام الفاسدين في بلادنا، الذين اعتادوا الاستهانة بشعوبهم، تمثل هذه الرسالة تذكرة قاسية. فالسؤال الحقيقي لم يعد: هل سيأتي يوم انتقام الشارع منهم؟ بل: هل سيتعلمون الدرس قبل أن يجرّدهم التاريخ من كل شيء أمام أعين مواطنيهم؟

لقد استمع المواطن العربي لعقود طويلة إلى وعود لا تنتهي بالإصلاح ومكافحة الفساد، لكن هذه الوعود تحولت، في معظم الأحيان، إلى ديكور سياسي يخفي واقعا أكثر قتامة. غير أن مشهدا واحدا كالذي شهدناه في نيبال يكفي لتذكيرنا بحقيقة راسخة: الشعوب قد تصبر، لكنها لا تنسى ولا تستسلم.

نمط عالمي

ما حدث في نيبال ليس استثناء، إنه جزء من قصة إنسانية متكررة: حيثما يسود الظلم وتُحتكر الثروة، تنفجر الشعوب في النهاية. من أوروبا الشرقية أواخر الثمانينات، إلى أمريكا اللاتينية في التسعينات، وصولا إلى منطقتنا العربية في العقد الماضي، يظل الدرس ثابتا: لا سلطة تبقى إذا انفصلت عن إرادة الناس.

واليوم، مع تعمّق الأزمات الاقتصادية واتساع الهوّة بين الحاكم والمحكوم في بلدان كثيرة، يبدو العالم مقبلا على مرحلة جديدة من المواجهة مع النخب الفاسدة. يبقى السؤال: هل تقرأ الأنظمة هذه الإشارات جيدا، أم أنها ستكابر حتى يأتي الطوفان؟

تذكرة قاسية

إن المشاهد المهينة التي خرجت من نيبال لم تكن مجرد لقطات غضب عابرة، بل رسالة تاريخية: لا المال ولا السلطة يمنحان حصانة أبدية.

وبالنسبة للحكام الفاسدين في بلادنا، الذين اعتادوا الاستهانة بشعوبهم، تمثل هذه الرسالة تذكرة قاسية. فالسؤال الحقيقي لم يعد: هل سيأتي يوم انتقام الشارع منهم؟ بل: هل سيتعلمون الدرس قبل أن يجرّدهم التاريخ من كل شيء أمام أعين مواطنيهم؟