مقالات مختارة

من أهوال التجويع الإباديّ في غزة

جيتي
حالما تصل شاحنات الأمم المتحدة للمساعدات الغذائية ننقضّ عليها بكل سرعة. في بعض الأحيان يكون عدد الشاحنات أربعا فقط بينما يكون عدد الصاعدين عليها عشرة آلاف! يحاول كل منا الحصول على ما يطعم به عائلته ويبيع الباقي على أمل جني مائة أو مائتي شاقل لسداد النفقات اليومية. لقد حوّل الجوع الناس إلى وحوش. فهم يتدافعون ويتلاطمون بينما تدهس الشاحنات بعضهم أو يُجرّون على الأرض جرّا وهم متشبثون بكيس من دقيق.

أما الذين يفلحون في تحصيل شيء ما فإنهم يقعون في بعض الأحيان جرحى بنيران القناصة الإسرائيليين الذين يصوبون نحو أرجل الناس. إنها مذبحة بشرية بإرادة إسرائيل.

هذا ما ترويه لوموند على لسان رب عائلة غزاوية اسمه إسلام أبو غسان. يؤكد الرجل أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يجبر الشاحنات على أن تسلك طرقا محفوفة بالمخاطر حتى لا تتمكن من الوصول إلى مستودعات وكالات الأمم المتحدة وبقية المنظمات الإغاثية. لهذا لم تصل إلى مستودعات برنامج الأمم المتحدة العالمي للغذاء طيلة شهر سبتمبر إلا شاحنة واحدة من أصل 991 شاحنة سيّرها البرنامج داخل قطاع غزة. ولهذا لقي الموت حوالي 2500 شخص وجرح 18 ألفا و500 أثناء سعيهم اليائس إلى الوصول إلى شيء من الطعام سواء على الطرق التي تسلكها شاحنات الإغاثة أو في مواقع «مؤسسة غزة الإغاثية» الأمريكية المتواطئة مع الجيش الإسرائيلي والتي تحظى منذ أشهر باحتكار شبه كامل لعلميات توزيع المساعدات.

وعندما اتصلت الجريدة بالإدارة العسكرية الإسرائيلية المكلفة بالحياة المدنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قذفت هذه الإدارة بالكرة في ملعب وكالات الأمم المتحدة. حيث قال أحد مسؤوليها إن على الوكالات الأممية أن تتدبر بنفسها مسألة حفظ أمنها كلما حصلت على الضوء الأخضر الإسرائيلي بتسيير قافلاتها. بل ذهب إلى حد القول: «إن الذين يسرقون مواد الإغاثة هم، على أية حال، مدنيون فلسطينيون محتاجون إليها. إذن فأين هو مصدر الإشكال؟».

وتعلق لوموند بأن في هذا الجواب تعتيما على حقيقة أن أقلية فقط من الغزاويين تتمكن من وضع يدها على هذه الأغذية. أما الحقيقة الأهم التي نسيت الجريدة أن تذكرها، رغم أنها الأوْلى بالذكر، فهي أن هذه الطريقة في «توزيع» الغذاء (وقد بلغ الأمر بـ«التوزيع» أن صار مجرد كلمة مجازية يستخدمها الإعلام اضطرارا لأنه ليس هناك كلمة أدق لتسمية ما يحدث) هي عملية شيطانية يُستدرج بها ضحايا التجويع الذي يفرضه الاحتلال حتى يكونوا عرضة لأحد مصيريْن: إما القتل العمد بنيران جيش الاحتلال بينما هم يتراكضون خلف لقمة تسد الرمق، أو دوام الإذلال اليومي والإهانة المتكررة للكرامة الإنسانية لعشرات الآلاف من الرجال والشبان.

دفع وتدافع ومشاحنات وعراك بالأيدي في سياق مستمر من إطلاق إسرائيلي للرصاص على الجميع: هذا هو واقع الإذلال والتنكيل بالكرامة الآدمية الذي تتلذذ به إسرائيل في غزة. ولهذا فإن كثيرا من الغزاويين لا طاقة لهم، رغم عض الجوع والعطش وقهر رؤية الأهل والأولاد يأْلمَون ويتضوّرون، بالدخول في هذا السباق الاضطراري الحاط بالمروءة والمريق لماء الوجه. حيث يروي رب العائلة الغزاوية حسين كريم أنه كان يرجع في كل مرة صفر اليدين من هذه الهجمات على شاحنات الإغاثة، وأنه قرر بعد بضع محاولات عدم الخروج مجددا مخافة أن تنتهي رحلة الركض خلف لقمة العيش بالموت. ذلك أن الأساليب التي يفرضها جيش الاحتلال «أساليب حاطّة بالكرامة البشرية، ثم إن المساعدات الغذائية قليلة جدا قياسا بهذا العدد الكبير من الناس. أنا رجل متعلم ومحترم، فلا أستطيع أن أطعم أطفالي بهذه الطريقة. لقد سلبونا كرامتنا».

ولكن ليس كل الناس سواء. لهذا يتكرر يوميا مشهد آلاف الرجال الجوعى وهم متجمعون لساعات طوال تحت الشمس الحارقة على حافات الطرقات التي تسلكها شاحنات الإغاثة يترقبون بلهفة الجائع الذي ترك خلفه أمّا وأخوات وزوجة وأطفالا جائعين لعله يظفر، نزاعا ونزالا، ببعض الطعام، هذا إذا لم تسبقهم إليه عصابات النهب المسلحة التي تعربد تحت حماية جيش الاحتلال.

التجويع الإبادي سياسة جهنمية ينتهجها خبثاء صهيون بقيادة كذّابهم «شيطانياهو» (كما يلقبه الناشطون الغربيون) الذي لا يني يتشدق بالحضارة (الإسرائيلية-الغربية) التي تحاصرها الهمجية (الفلسطينية-العربية)! سياسة جهنمية من إنجازات مجرمي الحرب والسلم الصهاينة الذين يعرفون أن التجويع أنكى من التقتيل. القتيل يموت مرة واحدة، أما المجوَّع فيموت كل يوم.

القدس العربي