قضايا وآراء

لَبِنة انتعاش لا اندثار لفلسطين.. بشرط!

نزار السهلي
"مظاهرات غضب تجاه إرهاب المحتل في غزة، وفي المحكمة الجنائية الدولية، وتململ المجتمعات الغربية من سردية معاداة السامية ونقض النفاق الغربي تجاه جرائم الاحتلال"- الأناضول
"مظاهرات غضب تجاه إرهاب المحتل في غزة، وفي المحكمة الجنائية الدولية، وتململ المجتمعات الغربية من سردية معاداة السامية ونقض النفاق الغربي تجاه جرائم الاحتلال"- الأناضول
التطورات الدراماتيكية الهائلة التي ترتبت على الحرب بين الاحتلال الإسرائيلي وإيران، وانخراط الولايات المتحدة المباشر بالعدوان على المنشآت النووية الإيرانية دعما لإسرائيل، تترك الجميع في المنطقة العربية في حالة كبرى من الهلع والخوف والارتباك وعدم القدرة على التركيز، نظرا للتداعيات المحتملة لتوسيع نطاق الحرب. ولم يكن ذلك بغير سببٍ، فقد كان التعامل العربي مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ومع مجمل سلوك الإرهاب الذي تتسلح به، مقدمة لفعل اندثار القوة السياسية العربية.

الاكتفاء العربي بالقلق مما يجري، لم يمنع إيران من بلع الخديعة الأمريكية كما هضمها جيرانهم العرب والفلسطينيين.. كل المحاذير سقطت، وسقط معها زيف ادعاء ترامب وإدارته كرجل سلام يسعى لوقف الحروب، فالأمر هنا متعلق بإسرائيل، التي تسقط لأجلها كل ثوابت القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان. هذه حقيقة مثبتة في ملف التعامل مع قضية شعب فلسطين الذي يتعرض لإرهاب وجرائم الاحتلال، ففيها تجلت الثوابت الاستراتيجية الغربية الأمريكية، في بقاء إسرائيل متفوقة نوعيا باستمرار الدعم الاقتصادي والعسكري، بعد اختراق حائط الردع الصهيوني في "الطوفان" تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والرد على العدوان بصواريخ إيرانية في 13 حزيران/ يونيو 2025.

العدوان على إيران وتدمير قدراتها، يمثل بالنسبة لإسرائيل المشهد الأخير لتدشين زعامتها "قيد الإنجاز" المتفردة في حق ممارسة العدوان بكل وقاحة، وتحويل القانون الدولي لمطية تركبه حيث تشاء وكيفما تشاء، وهو منجز لها منذ 75 عاما

ولأن إسرائيل لا يمكنها إنهاء صراع أو مواجهة بتحقيق حسم عسكري لوحدها، فهي كانت بحاجة لتجنيد كل مواردها وعلاقتها مع الإدارة الأمريكية والغرب، لتنفيذ العدوان على إيران، ومواصلته في غزة رغم إخفاق وسقوط نظرية الشجب والتنديد والتعويل على نية الضغط الأمريكي على إسرائيل، ولأن نظرية الأمن الإسرائيلية تقتضي توفير القدرة الأمريكية لحسمها بسرعة بالمشاركة المباشرة في العدوان أو تذخيره، فإن إسرائيل ومن خلفها الإدارة الأمريكية والغرب، والوكالة الدولية للطاقة النووية، تتمسك بأن لا برنامج عسكريا نوويا في إيران، ولم يكن في وارد الأخيرة فتح مواجهة مباشرة مع إسرائيل، رغم الجرائم الكبيرة والاغتيالات والعدوان الشامل على غزة ولبنان واستهداف أبرز حلفائها، لكن الأمر مختلف في المواجهة الأخيرة التي تمس جوهر الوجود والقوة الإيرانية.

لذلك، أحد أهداف العدوان على إيران غير المعلنة، غير توجيه ضربة ساحقة لبرنامج القوة النووية الإيرانية، هو تجريد الصراع العربي الإسرائيلي من أبعاده الحقيقية، كصراع مصيري مرتبط بزوال الاحتلال، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وتحويل الأنظار نحو مخاطر "قوة" إيران على جيرانها العرب بدل التركيز على إرهاب المحتل وسلوكه ومقاومته، واستخدام فزاعة دعمها لفصائل فلسطينية وأذرع عربية، كمخاطر تفوق مخاطر المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي على أرض فلسطين التاريخية، وعلى شعبها الذي يتعرض لأبشع جرائم الحرب وضد الإنسانية في العصر الحديث.

لم تكن المنطقة العربية بعيدة أو معزولة عن هذه التطورات، فانطلقت نقاشات ومداولات؛ بعضها عقلاني وهادئ، وانفعالي ساخن وشامت بالعدوان على إيران، وهذا يذكرنا بحملة الردح والسخرية من القضية الفلسطينية وما يجري في غزة؛ نداءات عربية دون فعل رافقت جرائم الإبادة المستمرة على غزة، لم تكن مفيدة ومؤثرة، وبأدوات وشعارات لا تناسب مرحلة العدوان. ولانتقائية تهميش المصالح، لن يتوقف العدوان على الفلسطينيين بانتهاء الحرب بين إيران واسرائيل، فالهدف الأرض الفلسطينية قتل وتهجير شعبها المستهدف بطورٍ جديد من حرب الإبادة بموافقة عالم غربي منافق، وتواطؤ عربي جبان ومذعن، ومرتعد من صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني.

والعدوان على إيران وتدمير قدراتها، يمثل بالنسبة لإسرائيل المشهد الأخير لتدشين زعامتها "قيد الإنجاز" المتفردة في حق ممارسة العدوان بكل وقاحة، وتحويل القانون الدولي لمطية تركبه حيث تشاء وكيفما تشاء، وهو منجز لها منذ 75 عاما، بعدما حوّلت أمريكا الأمم المتحدة ومؤسساتها لأداة طيعة تحركها بالاتجاه الذي يخدم ذراعها الاستعمارية في المؤسسة الصهيونية.

مأساوية الصورة لن تبقى بذلك السواد الذي يحاول البعض وصمها به، بالإذعان والدفع نحو الاستسلام لمنطق الغطرسة والتفوق الصهيوني الأمريكي.. لن تستتب الأمور قدريا على رؤوس الشارع العربي لحماية هذه الفاشية وتأمينها، فثغرات اختراق الردع الإسرائيلي وتهشيم صورته ستبقى ملهمة لأجيال وشعوب عربية وغير عربية

كل ذلك وغيره، من تطورات سابقة ولاحقة، ينعكس بشكل مباشر وأساسي، على ما يجري في غزة خصوصا وعموم الأرض الفلسطينية، وهو يؤشر لشكل التعاطي المستقبلي مع الحلول المطروحة لمرحلة ما بعد العدوان على غزة، فكل مؤشرات القنوط والإحباط التي ترافق انهيارا شاملا ومتسارعا لقدرة التأثير والفعل العربي لوقف جرائم الإبادة الجماعية في غزة، يجعل مصالح العربية وأمنها مستباحا بشكل مذل ومخزٍ. وللأسف، تنتصب في وجوهنا جميعا، حقيقة التسليم العربي بالقيد الأمريكي الإسرائيلي حفاظا على الذات الحاكمة التي لم تغير شيئا من واقع انحدارها الأمني والسياسي الذي بات رهينة الأمن الصهيوني، بل ركبت موجة شيطنة كل مواجهة للاحتلال وغطرسة أمريكا، وهي بمثابة إعلان إفلاس عربي للخلود إلى الراحة من القضية الفلسطينية ومن قضايا عربية أخرى.

استكشاف مرحلة ما بعد العدوان على غزة، وضرب إيران، مع الانتشاء الصهيوني المستثمر بفرصة ارتكاب المذابح، وتوسيع رقعة العدوان، يستدعي أولا وقبل كل شيء، إسقاط أي رهان عربي وفلسطيني على دور ورعاية أمريكا لما يسمى "عملية سلام"، والإسراع بطريقة مختلفة في استعادة وحدة فلسطينية مختلفة عما عهدناه سابقا من الفشل والاستغراق في التحسر على فقدانها، بدل الاسترسال في البكاء على أطلال خراب البيت الفلسطيني والعربي، لأن قساوة الحلول المطروحة أمريكيا وإسرائيليا، التي يعبر عنها نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، ليست بحاجة لاستكشاف نوايا صهيونية، شواهدها الفجة تفصح عنها جرائم وخطط فاشية تطبق حرفيا، أما إعادة استنباط سياسة عربية وفلسطينية، لتليينها وتقزيم الذات أمام الأمريكي والزحف أمام الصهيوني، فلم ينقذ القضية ولن ينقذ أحدا.

مأساوية الصورة لن تبقى بذلك السواد الذي يحاول البعض وصمها به، بالإذعان والدفع نحو الاستسلام لمنطق الغطرسة والتفوق الصهيوني الأمريكي.. لن تستتب الأمور قدريا على رؤوس الشارع العربي لحماية هذه الفاشية وتأمينها، فثغرات اختراق الردع الإسرائيلي وتهشيم صورته ستبقى ملهمة لأجيال وشعوب عربية وغير عربية. فرض الهزيمة فشِل في قرن المقاومة الضروس لها من شعب فلسطين، ولمشاريع تصفية حقوقه، وهذه مرحلة صمود ومعركة وجود، كما أنها ليست مرحلة معارك عسكرية فاصلة لتحقيق نصر على المؤسسة الصهيونية، بل إن كل ما جرى ويجري هو لبِنات انتعاش ونهوض قادم بعد مرحلة الصمود، دليلنا في هذا ما شهدناه حول الأرض من مظاهرات غضب تجاه إرهاب المحتل في غزة، وفي المحكمة الجنائية الدولية، وتململ المجتمعات الغربية من سردية معاداة السامية ونقض النفاق الغربي تجاه جرائم الاحتلال، وإن كان ذلك مشروطا باستعادة عوامل مفقودة الآن، وما عدا ذلك، فإنه سيدفن كل أملٍ إن لم تفعل حركة تحرر وطني ما ينبغي فعله وإنجازه على الأرض.

x.com/nizar_sahli
التعليقات (0)

خبر عاجل