قضايا وآراء

سجن بدر 3.. مقبرة الأحياء في دولة السيسي الأمنية

محمد حمدي
"تحوّل فعليا إلى مركز لكسر الإرادة الإنسانية"- جيتي
"تحوّل فعليا إلى مركز لكسر الإرادة الإنسانية"- جيتي
منذ سنوات، باتت الزنازين في مصر شاهدة على واحدة من أعتى موجات القمع التي عرفها تاريخ البلاد الحديث. لكن ما يجري خلف أسوار سجن بدر 3، يتجاوز حدود القمع إلى ما يمكن تسميته صراحة بـ"سياسة القتل البطيء"، التي تمارس بشكل ممنهج ضد آلاف المعتقلين السياسيين.

شهادات من الجحيم

عشرات الشهادات التي توثقها يوميا صفحات النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وإكس) تتحدث عن تعذيب ممنهج، وانعدام تام للرعاية الطبية، وعزل انفرادي طويل الأمد، وتجويع، وحرمان من التريّض والزيارة. شهادات ذوي المعتقلين تنقل صورة مأساوية عن ما يُسمى بـ"مركز الإصلاح والتأهيل بدر 3"، والذي تحوّل فعليا إلى مركز لكسر الإرادة الإنسانية.

يقول أحد أهالي المعتقلين: "لم أره منذ أكثر من عامين. لا يُسمح لنا بزيارته، ولا حتى برسالة. علمنا بالصدفة أنه نقل إلى المستشفى ثم أُعيد إلى الزنزانة رغم حالته الحرجة. لا دواء، لا رحمة، لا قانون".

لا يُعد تجاوزا فرديا أو انحرافا من موظفي السجن، بل هو نهج ممنهج، يعكس إرادة سياسية عليا بـ"إخراس الأصوات" عبر الإهمال المتعمد والتصفية النفسية والجسدية

ويؤكد آخر: "شقيقي مصاب بداء السكري ويحتاج للأنسولين، لا يُسمح له بالحصول عليه بانتظام. يقول لنا في الجوابات التي تُهرّب أحيانا: هم لا يريدون علاجا لنا بل يقتلوننا ببطء".

كما تحدثت رسائل عن تعمد فصل الكهرباء عن المعتقلين خاصة وقت الظهيرة في هذا الجو شديد الحرارة، وكذلك عدم تقديم أي رعاية صحية أو السماح باستخدام أي كريمات أو أدوية لعلاج الالتهابات الناتجة عن هذا الجو شديد الحرارة.

الموت البطيء كسياسة دولة

كل ما سبق لا يُعد تجاوزا فرديا أو انحرافا من موظفي السجن، بل هو نهج ممنهج، يعكس إرادة سياسية عليا بـ"إخراس الأصوات" عبر الإهمال المتعمد والتصفية النفسية والجسدية.

وما ذُكر من أمثلة مجرد غيض من فيض، والواقع أشد وأصعب مما يمكن أن يتخيله بشر. ما يحدث في بدر 3 هو سياسة دولة، لا مجرد سلوك سجّان.

فمئات السجناء محرومون من العلاج، ومن بينهم من أتموا فترات محكوميتهم أو حصلوا على براءات، ومع ذلك تتم "إعادة تدويرهم" في قضايا جديدة.

رهائن الجمهورية الأمنية

سجن بدر نموذج لكل معتقلات هذا النظام، ومن المؤكد أنه لو سُمح للمعتقلين بالإفصاح عن شهادتهم لكانت الأهوال في كلمات تصب علينا.

لا تقتصر الانتهاكات على تيار بعينه، فالسجون المصرية تضم ما لا يقل عن 100 ألف معتقل سياسي، من مختلف التيارات: إسلاميين، يساريين، ليبراليين، شباب ثورة، نقابيين، وصحفيين، جميعهم رهائن لدى النظام، يتم استخدامهم كورقة ضغط، أو للتخويف، أو للانتقام.

على سبيل المثال، ورغم انقضاء مدة حبسه، لا يزال علاء عبد الفتاح قابعا خلف القضبان. أما المنتمون للتيار الإسلامي، مثل الدكتور محمد البلتاجي والوزير السابق باسم عودة، والشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، فالتنكيل بهم بلغ مستويات من الوحشية لا يمكن تصورها. بل حتى شخصيات ذات خلفية ليبرالية هادئة مثل المهندس يحيى حسين عبد الهادي، طالتهم يد البطش، فقط لأنهم تجرأوا على التعبير عن رأي مخالف.

السيسي.. هو مصر

ربما لا يعبر عن هذه الرؤية الشمولية أكثر من تصريح عبد الفتاح السيسي ذاته، حين قال إن اعتقال هؤلاء "أمن القومي". لكن أي أمن؟

السيسي لا يرى الفرق بين الأمن القومي وأمن حكمه الشخصي، فالمعتقل في نظره ليس خصما سياسيا بل تهديدا وجوديا. لقد اختزل السيسي الدولة في ذاته، وصارت أي معارضة له بمثابة خيانة وطنية، وكل نقد يُعتبر عداء لمصر.

من هنا لا عجب أن النظام لا يقبل حتى بأصوات نقد هادئة، أو مبادرات إصلاحية من داخل معسكره.

لن أقول أنقذوا المعتقلين لأن هذا النظام لا يرى ولا يسمع إلا صوته فقط، أو بمعنى أدق صوت من يقوده ويحركه، بل أقول أنقذوا مصر بعد أن أصبحت سجن كبير في ظل حكم السيسي، أنقذوا أنفسكم من نظام ليس لديه خطوط حمراء

ورغم عشرات التقارير الحقوقية، ومناشدات ذوي المعتقلين، لم يعد للمنظمات الدولية تأثير على النظام المصري، ربما لأسباب سياسية واقتصادية، أو نتيجة ضغوط من داعمي النظام المصري في الغرب.

أما المنظمات الحقوقية المحلية، فتحوّلت في معظمها إلى أبواق تابعة للسلطة، بل يتصدرها ويقودها رجال النظام، ومنهم من هو متهم في قضايا حقوقية، في مشهد عبثي بامتياز.

أسوأ نموذج للدولة الأمنية

ما يجري في بدر 3 ومعتقلات النظام ليس حدثا عارضا، بل نموذج لما أصبح عليه حال مصر تحت حكم الفرد، الذي يرى في الخوف والبطش الضمان الوحيد لبقائه. إنه سجن بحجم وطن، تُخنق فيه الحريات، ويُعذّب فيه المختلِف، ويُهان فيه الإنسان.

لكن، وكما علّمتنا دروس التاريخ، لا قيد يدوم.. ولا ظلم يُخلّد. فإذا كان النظام يتخذ المعتقلين كرهائن على حد وصفه، فإن تحرير هؤلاء الرهائن صار فريضة على الشعب المصري.

لن أقول أنقذوا المعتقلين لأن هذا النظام لا يرى ولا يسمع إلا صوته فقط، أو بمعنى أدق صوت من يقوده ويحركه، بل أقول أنقذوا مصر بعد أن أصبحت سجن كبير في ظل حكم السيسي، أنقذوا أنفسكم من نظام ليس لديه خطوط حمراء.
التعليقات (0)