أفكَار

الإخوان المسلمون" يفككون علاقتهم بالعنف.. ملامح السلمية في تجربة الجماعة (1)

جماعة الإخوان المسلمين لا تبدأ دعوتها اليوم، ولا هي تبدأ من فراغ، بل هي جماعة لها أصول فكرية واضحة نضجت خلال تاريخ ممتد مرت فيه بتجارب حافلة..
جماعة الإخوان المسلمين لا تبدأ دعوتها اليوم، ولا هي تبدأ من فراغ، بل هي جماعة لها أصول فكرية واضحة نضجت خلال تاريخ ممتد مرت فيه بتجارب حافلة..
في دراسة فكرية نادرة أعدّتها جماعة "الإخوان المسلمون" بنفسها، تُعيد الحركة الإسلامية الأبرز في العالم العربي قراءة مسألتي العنف والسلمية في فكرها وتجربتها، مركّزةً على المرجعيات النظرية والتاريخية التي صاغت توجهاتها على مدار قرن. وتأتي الدراسة، التي تحمل عنوان "الإخوان المسلمون ومسألتا العنف والسلمية: نظرات في فكر وتجربة الجماعة في مصر", في توقيت مفصلي، وسط ما يشهده الإقليم من تحولات كبرى، وتقدم مراجعة معمقة لخيارات الجماعة منذ تأسيسها على يد الإمام حسن البنا، مؤكدة أن السلمية ليست شعارًا عابرًا بل خيارًا استقر بعد تجارب طويلة ومكلفة، رغم الضغوط والمآسي.

وفي هذا الإطار، تنشر "عربي21" هذه الدراسة على حلقات، ضمن سعيها لإدارة حوار فكري وتوثيقي أوسع حول واقع ومستقبل الحركات الإسلامية في العالم العربي، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، في ظل التحديات المتجددة التي تواجهها على المستويات السياسية والمجتمعية والإقليمية.


مقدمة منهجية

عندما أطلق فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع، من فوق منصة اعتصام رابعة في ذلك اليوم المشهود غداة الانقلاب العسكري، تلك العبارات القصيرة الحاسمة: “ثورتنا سلمية.. وستظل سلمية.. سلميتنا أقوى من الرصاص”،  فلعل الجمهور لم يجد في تأكيد فضيلته على خيار السلمية في ذاته جديدا، فكذلك كان قادة الجماعة يرددون على مدار عقود ممتدة.

ربما كان الجديد هو في إظهاره عزم الجماعة على ألا يخرجها الانقلاب العسكري المشؤوم عن خيارها الذي ظل مستقرا منذ عودتها لساحة العمل العام في منتصف السبعينات من القرن الماضي.

غير أنه مع توالي الأحداث فقد بدأ يتضح تباعا أن لهذا الانقلاب ما بعده... فالغادر لا يأمن لرد فعل غدرته مهما تجبر، ومن ثم فلا مناص من أن يقوم بالتنكيل بالمغدور به حتي يطمئن إلى عجزه عن إعادة الأمور لنصابها إن اراد ذلك.

ثم إن هناك "التزامات “ يتعين على الانقلابيين سدادها لأطراف في الداخل والخارج من بينها ما هو متعلق بالقضاء المبرم على فكرة أن هناك قوى شعبيه تمثل إرادة المجتمع، وأن لهذه القوى الشعبية أن تطمح لفرض هذه الإرادة على نحو ما حدث في ثورة يناير 2011.

ومع استمرار البطش وامتداد القمع في ليل طويل لم تظهر علامات فجره بعد، فقد بدا أن خيار السلمية أصبح محل مراجعة عند البعض ممن بات يرى في العنف ضرورة لردع الانقلابيين عن التمادي في طغيانهم..

وهي مراجعة ذات دواعٍ مفهومة، في حال توفر ثلاثة ضوابط ضرورية:

الضابط الاول:  بذل الوسع في دراسة الأمر وتمحيصه من جميع جوانبه، وإجراء الموازنات الضرورية بين البدائل المتاحة..

الضابط الثاني:  احترام المؤسسية والالتزام بالشفافية، فكم سجل تاريخ العنف ـ هنا أو هناك ـ من عمليات توريط قامت بها قلة ـصادقة في قناعتها بجدواه ـ لتجر وراءها غالبية لا تتوافر لديها هذه القناعات، وذلك عن طريق توظيف أوضاع السرية والاستثنائية التي تكتنف القيادة والإدارة في ظروف اشتداد التضييق والقمع، ولا عاصم من تكرار هذه الانحرافات إلا الالتزام بالشفافية واحترام المؤسسية، مهما كانت تكلفة ذلك لأن التاريخ يؤكد ضآلة مراعاة ها الاحترام بالقياس لتبعات التغاضي عنها.

الضابط الثالث: أن جماعة الإخوان المسلمين لا تبدأ دعوتها اليوم، ولا هي تبدأ من فراغ، بل هي جماعة لها أصول فكرية واضحة نضجت خلال تاريخ ممتد مرت فيه بتجارب حافلة، وأيا ما كانت المستجدات فليس لأحد ـ خضوعًا لتأثير اللحظة الضاغط - أن يهدر هذا الفكر، وذلك التاريخ، وتلك التجارب، بل تظل خيارات الجماعة التي استقرت عليها هي الأصل، ويتم التعامل مع المستجدات بقدرها دون غلو ولا تفريط...

ولا يحول هذا الضابط دون الترحيب بالمراجعات الموضوعية، فالجماعة ـ ولا ريب ـ في أمس الحاجة إليها. 

وتهدف هذه الدراسة إلى أن تساهم في إنارة الطريق أمام المهتمين بتحقيق الضابط الثالث، وذلك بمحاولة تجلية المواقف الفكرية والعملية المرتبطة بمسألة العنف في فكر وتجربة جماعة الإخوان المسلمين بداية بمؤسسها الإمام حسن البنا الذي أنشأ الجماعة وقادها على مدى عقدين من الزمان حفلت بأحداث جسام، ثم بالمراحل التي تلته وشهدت فيها الجماعة تجارب غنية بالدروس والخبرات...

أهمية وضوابط النظر في تراث الإمام البنا..

الأهمية والضوابط

في ظل الاوضاع الراهنة اليوم.. فبإعتباره المرشد المؤسس من ناحية، ولثراء اجتهاداته وعمقها من ناحية أخرى، فإن لفكر الإمام البنا وتجربته مرجعيتهما الاصيلة في تحديد خيارات الجماعة حتى لو بدا لها أن تختلف مع هذه الخيارات في مرحلة لاحقة مثلما حدث في مسألة الحزبية والتعددية السياسية.

ثم إنه مع استقرار الجماعة على خيار السلمية لعقود ممتدة فقد بدا أنها لم تعد في حاجة لمراجعة المواقف التاريخية المرتبطة بهذه المسألة، حتى شاء الله أن تظهر هذه الحاجة اليوم..

حسن البنا صنع حركة إسلامية أكثر مما صنع فكرا مجردا، ونحن نبلور فكره ونعرضه لا من خلال أقواله فحسب، ولكن من خلال حركته وأعماله، ومن خلال الجماعة التي أنشأها..
فليس أمامنا إلا إزاحة الغبار عن ملفات ظننا يوما أن الزمن قد تجاوزها، والله غالب على أمره.

ونلفت انتباه القارئ إلى أن موارد الدراسة لهذه المرحلة تتباين ما بين اجتهادات للإمام البنا نود لفت الأنظار إليها لما لها من دلالات رئيسية فيما نحن بصدده، وما بين تجارب خاضها الإمام وكانت لها آثار متباينة، وولدت خبرات ثرية توجب أخذها في الاعتبار.

وسنراعي هنا أن الإمام البنا يمثل نوعية خاصة من المفكرين الذين يجمعون ما بين الحركة على أرض الواقع والانشغال بالفكر الذي يخدم هذه الحركة.

فوفق رؤية المستشار طارق البشري (حسن البنا صنع حركة إسلامية أكثر مما صنع فكرا مجردا، ونحن نبلور فكره ونعرضه لا من خلال أقواله فحسب، ولكن من خلال حركته وأعماله، ومن خلال الجماعة التي أنشأها) ..

وعليه فسيلاحظ القارئ أن الدراسة تُكثر من الروايات لنستبين منها ماذا عمل، وكيف كانت حركته في ظل الواقع الذي عايشه وأمام الأحداث التي واجهته.

إنه  اجتهاد في التعرف على منهج الإمام البنا من خلال تفاعله مع الواقع الذي عايشه، لأنه ما كان لأحد أن يقتصر في فهمه لمنهجه على النصوص التي صدرت عنه فقط ـ مع كونها ركنا ركينا لهذا المنهج ـ لأن الأبلغ في الوصول للغاية المرجوة والموضوعية أن نقرأ هذه النصوص كذلك في إطار الأحداث التي واكبتها.

موقف الإمام البنا من العنف

مدخل

اعتني الإمام البنا بتحديد الزوايا العامة التي يتعين النظر لمسألة استخدام القوة في التغيير من خلالها، وذلك علي الوجه الذي ورد برسالة المؤتمر الخامس:

الزاوية الاولى: استخدام القوة يجب أن يسبقه تحققها على أرض الواقع بجوانبها المختلفة ممثلةً في قوة العقيدة، وقوة الوحدة، ثم قوة الساعد والسلاح.         

الزاوية الثانية: أن هناك حدودا وشروطا لاستخدام القوة يجب مراعاتها والالتزام بها.

الزاوية الثالثة: أن هناك وسائل مختلفة للتغيير يجب إعمالها أولا قبل اللجوء لاستخدام القوة.

الزاوية الرابعة: أنه يجب الموازنة بين المنافع والمضار المترتبة علي استخدام القوة.

الجماعة ليست مدرسة تنظيرية معنية بالترجيح بين الاتجاهات الفكرية أو الفقهية، ولكنها حركة تغيير تهتم ـ في الأساس ـ بحسم المواقف التي تقابلها علي أرض الواقع في حينها.
إن الحقيقه التي يمكن أن نستقيها من تاريخ المجتمع المصري حينذاك أن سؤال العنف/السلمية لم يكن مطروحا على البنا بشكل واضح، بمعنى أن واقع المجتمع في حينه أتاح للجماعة ممارسة أنشطتها الواسعة دون حاجة لتقديم إجابات عليه، ومن ثم فإن ما طرحه البنا كان حديثا هو صاحب المبادرة فيه عن الأطر والضوابط العامة قياما بدوره في تكوين وتوعية أفراد الجماعة، دون محاولة من جانبه للاشتباك بطرحه نظريا مع ظروف مجتمع بذاته، فضلا عن تطويره ليكون دليل عمل لإنفاذه عمليا على أرض الواقع.

ومما طرحه الإمام البنا في هذ الموضوع كان كافيا للاحتياج الذي يراه وقتها، فمن الملاحظات الجديرة بالتسجيل لدارسي نهج الإمام البنا أنه كان أبعد ما يكون عن الانشغال في مراحل دعوته بتكوين نموذج نظري متكامل، ثم بالانتقال لوضعه موضع التنفيذ في مراحل لاحقة.

وهو ما لاحظه الدكتور إبراهيم البيومي في دراسته عن الفكر السياسي للإمام البنا: (لم ينقطع البنا في أي فترة من الفترات للانشغال بالتأصيل النظري لمنهج العمل، أي أنه لم تكن لديه نظرية جاهزة للعمل بها بل اتجه مباشرة إلى الواقع يمارس ويجرب فيه أفكاره، وكل ما يمكن قوله إنه كان يصدر عن إطار مرجعي محدد مجتهدا في حدوده على ضوء معطيات الواقع، ومستفيدا من دروس لحركات وجهود الإصلاح التي سبقته)..

ويعزز ما انتهي إليه د. إبراهيم البيومي ملاحظة ذات صلة يسجلها الدكتور عصام العريان (أحد الثوابت الأصلية في فكرة حسن البنا عدم تبني الجماعة لخيارات فقهية محددة إلا بسبب ضرورة حسم موقف من المواقف).

فالجماعة ليست مدرسة تنظيرية معنية بالترجيح بين الاتجاهات الفكرية أو الفقهية، ولكنها حركة تغيير تهتم ـ في الأساس ـ بحسم المواقف التي تقابلها علي أرض الواقع في حينها.

ومحصلة هذه الملاحظات تدعونا لأن نوطن أنفسنا عند نظرنا في فكر الإمام البنا في هذه القضية أننا لسنا أمام دليل عمل متكامل نعرض عليه الموقف المستجد فيبرز الخيار المعتمد للتعامل معه،

ولعلنا نتفق ابتداءً أن وجود هذا النقص في التنظير يمثل نتاجا طبيعيا لرجل استشهد بعد حياة قصيرة كإن عاكفا فيها ـ بالدرجة الأولى ـ على تكوين الرجال لا تحبير المدونات، والتحدي الذي يواجهنا الآن هو أن نقر أولا بوجوده، وأن نحذر من التعسف في سدها قسرا بكلمات له من هنا أو هناك، بل نعمد لاستجلاء منهجه، ثم البناء عليه، دون إغفال لمستجدات الواقع، لسد هذه الثغرات.
التعليقات (0)

خبر عاجل