هل يُمكن لمخاض الحرية الذي دشنه السوريون في شوارع الألم، وساحات الانكسار،
أن يُثمر ربيعًا ديمقراطيًا يداوي جراح ذلك الطفل الذي ابتلعه البحر، وهو يشهق في صمتِ
المدى، شاكيًا إلى الله خذلان البشرية؟ ذاك الطفل الذي لفظه الموج على شاطئ يوناني،
لم يكن فقط ضحية حرب، بل كان صدى رمزيًا لقرونٍ من القمع، وانغلاق العقل، ووأد السؤال.
كان وجهه ـ وهو غافٍ كأنه نائم إلى الأبد ـ مرآة لوجدانٍ عربيٍّ مأزوم، ولحظة فارقة
في تاريخ الإنسانية، تُعلن أن لا أحد في منجى من العار، حين يُقتل الإنسان مرتين: مرة
بالصاروخ، ومرة بالنسيان.
في
سوريا، كما في سائر المشرق، لا يولد السؤال من فراغ، بل من تحت الركام.
وما نعيشه اليوم ليس مجرد تحول سياسي، بل محاولة عسيرة لكتابة بداية جديدة، على أطلال
دولةٍ اختُزلت في صورة فرد، وعلى أنقاض وطن صودر فيه الفكر قبل أن تُصادر فيه الأرض.
وبين الخوف والتوق، يولد سؤال جوهري: كيف نُعيد تأسيس العقل في بلدٍ أُخمدت فيه الكلمة،
ونُفي فيه المعنى، وقُطعت فيه شرايين الحوار باسم الشعارات الخالدة؟
سوريا ما بعد البعث ليست فقط ساحة لصراع جيوسياسي، بل معملٌ لصياغة وعي
جديد، وميدان لبعث مشروع فكري ظلّ مؤجلاً. هناك، في عمق الجراح، تتشكل بذور فكرٍ لا
يهرب من التراث ولا ينغلق فيه، بل يحاوره بجرأة، ويستنهض منه إمكانيات التنوير، كما
فعل
الطيب تيزيني، وكما واصل، بطريقته، الدكتور برهان غليون.
إنّ ما نحتاجه اليوم ليس خطابًا بديلاً عن خطاب، ولا سلطة جديدة مكان
سلطة قديمة، بل انقلابًا في معنى السلطة ذاته: من التسلّط إلى المشاركة، ومن التلقين
إلى السؤال، ومن احتكار الحقيقة إلى تعدد إمكانياتها. وهذه المهمة ليست سياسية فحسب،
بل معرفية بالدرجة الأولى. لأن من يُغيّر السلطة دون أن يُغيّر العقل، يُعيد إنتاج
القيد، ولكن بثوب آخر.
ومن هذا الأفق المزدوج ـ بين سؤال الفكر وسؤال الحرية ـ نستعيد الطيب
تيزيني لا كمفكر من الماضي، بل كصوت يتردد في الحاضر، يربط الثورة بالمعنى، والحداثة
بالمساءلة، والعقل بالنقد الذاتي. فمشروعه لم يكن ترفًا أكاديميًا، بل نداءً للاستفاقة
من سبات القرون، وبناء عقل عربي يقدر أن يصوغ حداثته لا بالقطيعة بل بالمداخلة، لا
بالاستيراد بل بإعادة التأويل.
بداية الحلم
ليست التحولات التي تشهدها سوريا اليوم، منذ أفول نظام البعث، مجرد تبدّل
في السلطة أو تغيّر في الوجوه. ما يجري على الأرض هو، في أحد وجوهه، بداية تلمّس طريق
حلمٍ عتيق، حَلِمَ به الآلاف ممن كتبوا للحرية، وماتوا في سبيل الكرامة، وحلموا بالانتقال
الديمقراطي وسط أنقاض الخوف، وعلى وقع شعارات كُتمت لعقود.
سوريا اليوم ليست فقط ساحة صراع بين مشاريع سياسية، بل مختبر تاريخي تتفاعل
فيه قوى الحاضر مع أشباح الماضي، في لحظة مفصلية تضعنا أمام سؤال حاد: كيف يمكن لبلدٍ
صودر فيه العقل والفكر والخيال، على مدى نصف قرن، أن يبدأ الآن رحلة إعادة التأسيس؟
هذا المقال محاولة للاقتراب من مشروع التيزيني الفكري من زاوية شديدة الأهمية: كيف يمكن للتراث أن يتحوّل من عائق إلى أفق؟ ومن سكون ماضوي إلى طاقة للتفكير النقدي؟ وهل بالإمكان بناء حداثة من الداخل، لا ضد التراث بل عبر تفكيكه وإعادة تركيبه؟ تلك هي بعض الأسئلة التي سنمضي معها نحو فهم مركزية التراث في مشروع تيزيني، لا بوصفها عودة إلى الماضي، بل انخراطاً واعياً في مهمة إعادة تأسيس الحاضر.
لقد عاشت سوريا، في ظل حكم البعث، واحدة من أطول حقب التسلّط السياسي
في تاريخها الحديث، حيث تمّت مصادرة المجال العام، وتجريف الحياة السياسية، وتحويل
الدولة إلى جهاز أمني ضخم. ومع ذلك، فإن هذا السياق لم يمنع بروز مفكرين ومثقفين كبار،
حملوا شعلة النقد في زمن الصمت، وكتبوا، من داخل الحصار، نصوصًا ستظل شاهدة على خصوبة
الأرض السورية، حتى تحت الركام.
سوريا التي أنجبت الفارابي، وابن قيم الجوزية، قادرةٌ، كما عهدها التاريخ،
على أن تكون رحمًا للأفكار، لا مجرد ساحة للانقلابات. وفي قلب العتمة التي فرضها النظام،
برزت أسماء كبرى ـ صادق جلال العظم، حسين مروة، جورج طرابيشي، عبد الرحمن الكواكبي،
برهان غليون، وطيب تيزيني ـ كمحاولات فكرية لإنقاذ الوعي من الغرق في مستنقع الأيديولوجيا
والانقياد.
وفي خضم هذا المشهد، يبرز اسم الطيب تيزيني ليس كمجرد مفكر، بل كصاحب
مشروع فلسفي يسعى إلى إعادة تركيب العقل العربي من الداخل، عبر مراجعة جذرية للتراث،
لا تنسفه بل تحاوره. مشروعه لا ينتمي إلى الرفوف الجامدة، بل إلى الحقول المفتوحة التي
تزرع الأسئلة وتنتج مناخًا نقديًا قابلاً للتمدد في الفكر والواقع معًا.
نحو مركزية التراث
حين بدأتُ التفكير في تناول
أطروحات الطيب تيزيني، لم أكن أقرأ في كتب
الفلسفة وحسب، بل كنتُ أسترجع ملامح معركة أوسع: معركة من أجل تحرير الإنسان العربي
من القيود الذهنية التي كبّلته، قبل أن تُكبّله الأنظمة. كانت هذه المعركة، كما أدركها
تيزيني مبكرًا، لا تُخاض فقط في ميدان السياسة أو الاقتصاد، بل في عمق النصوص، في بنيات
المعنى، في كيفية قراءتنا لتراثنا.
من هنا، يبدو الانتقال من صادق جلال العظم إلى طيب تيزيني، انتقالاً من
نقد الفكر الديني إلى مشروع تأسيس عقل عربي جديد، لا ينبني على الاستيراد، بل على تفكيك
التراث بوسائل مأصولة. وإذا كان العظم قد قاد هجومًا عقلانيًا جريئًا من خارج النص،
فإن التيزيني قرر أن يدخل إلى قلب النص ـ إلى قلب التراث ـ ليعيد بناءه على أسس جديدة.
"نحو مركزية التراث.. الطيب تيزيني وبناء مشروع نقدي من الداخل"
هو محاولة للدخول إلى هذا العالم المركّب، لا كزائر متحف، بل كمن يبحث عن أدوات للنجاة.
ففي زمن التحولات السورية، حيث تُعاد كتابة التاريخ وتُفتَّش الأمة عن عقل جديد، يصبح
استدعاء التيزيني ليس نوعًا من الوفاء فقط، بل ضرورة من أجل تأسيس ما بعد البعث، وما
بعد الهزيمة، وما بعد الصمت.
مناظرة بين المحافظة والحداثة
في تناولي لأطروحات الدكتور الطيب تيزيني، انبعثت في
ذهني حادثة لا تزال تومض في الذاكرة، تعود إلى النصف الثاني من تسعينيات
القرن الماضي، حين كنت مقيماً في دمشق. يومها تم الإعلان عن مناظرة فكرية مرتقبة حول
العلمانية، كان طرفاها: الدكتور طيب تيزيني، المفكر الماركسي النقدي العائد من حلبات
الفلسفة الألمانية، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، أحد أبرز الوجوه الفقهية في التيار
الإسلامي التقليدي. كان الحدث مقرراً في جامعة دمشق ـ البرامكة، وكنتُ من بين المترقبين
له بشغف، مثل كثيرين غيري. غير أن الحشود الكبيرة التي تدفقت، لا سيما من أنصار التيار
الإسلامي، أربكت إدارة الجامعة، فانتهى الأمر بإلغاء المناظرة قبل أن تبدأ.
لم يكن الإلغاء مجرد حادث إداري؛ كان مشهداً كثيف الدلالة، يكشف عن عمق
التوتر بين مشروع عقلاني يسعى إلى مساءلة التراث من داخله، وبين قوى ما زالت تنظر إلى
هذا التراث بوصفه منطقة محرّمة لا يُمسّ. وهو ما يجعل من التيزيني شخصية مركزية في
أي حديث عن العقل النقدي العربي، لا لأنه جاء بنظريات صادمة أو استفزازية، بل لأنه
أراد أن يتقدم إلى قلب التراث لا لينقضه من خارجه، بل لينخره بأسئلة الداخل ذاتها.
هذا المقال محاولة للاقتراب من مشروع التيزيني الفكري من زاوية شديدة
الأهمية: كيف يمكن للتراث أن يتحوّل من عائق إلى أفق؟ ومن سكون ماضوي إلى طاقة للتفكير
النقدي؟ وهل بالإمكان بناء حداثة من الداخل، لا ضد التراث بل عبر تفكيكه وإعادة تركيبه؟
تلك هي بعض الأسئلة التي سنمضي معها نحو فهم مركزية التراث في مشروع تيزيني، لا بوصفها
عودة إلى الماضي، بل انخراطاً واعياً في مهمة إعادة تأسيس الحاضر.
إذا كان هشام جعيّط قد أمعن في تفكيك البنية التاريخية للسرد الإسلامي،
وصادق جلال العظم قد ركّز نقده على الفكر الديني المعاصر كأداة أيديولوجية تبريرية،
فإن الطيب تيزيني يمثل مرحلة مختلفة وأكثر تعقيدًا في تشكّل التيار النقدي الجذري في
الفكر العربي. ذلك أن مشروعه لا ينطلق من حدود النصوص الدينية فحسب، بل من جذور التراث
ذاته كمنظومة فكرية كليّة، وكسجلّ للصراع بين السلطة والمعنى.
الانتقال إلى الطيب تيزيني ليس انتقالًا إلى مفكر جديد بقدر ما هو نقلة
منهجية ومعرفية في طريقة التعامل مع إشكاليات التراث والحداثة. فهو لا يكتفي بتفكيك
أنماط التفكير اللاعقلاني، بل يسعى إلى إعادة تشكيل العقل العربي من داخله، أي من خلال
قراءة جدلية ـ تاريخية للتراث، تحوّله من عبء تاريخي إلى ممكن تحرري.
وبينما يعالج جعيّط تاريخ الإسلام من موقع المؤرخ العقلاني، ويواجه العظم
البنية الأيديولوجية للفكر الديني، يعمل تيزيني على هندسة مشروع فكري متكامل، يأخذ
في الحسبان المسار الطويل والمعقد الذي أنتج ما يسميه بـ"العقل التراثي المغلق".
وهو، في هذا السياق، لا يسعى إلى القطيعة مع الماضي، وإنما إلى تأهيله نقديًا من أجل
المستقبل.
أولًا ـ أطروحة التأسيس.. نحو "نقد العقل التراثي"
يمثّل الطيب تيزيني (1934 ـ 2019) أحد أبرز المفكرين العرب الذين حاولوا
تأسيس مشروع فلسفي ـ معرفي متكامل لتفكيك التراث، انطلاقًا من أرضية داخلية ـ تاريخية
لا تستورد أدواتها بالكامل من الخارج، كما فعل البعض، بل تعمل من داخل البنية العربية
الإسلامية على تفكيكها وإعادة بنائها.
في كتابه المرجعي مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة
المعاصرة، يقدّم تيزيني تصورًا شاملاً لتاريخ الفكر العربي، ليس من منظور سرديّ، بل
من موقع النقد الجذري للعقل العربي، بوصفه عقلًا أسطوريًا ـ استبداديًا في بنيته، أعاق
تشكل الحداثة.
ثانيًا ـ المادية التاريخية والتفكيك الداخلي
خلافًا للعظم الذي استخدم أدوات عقلانية ـ وضعية أوروبية، يتبنى تيزيني
منهجًا جدليًا ماديًا، مستمدًا من الماركسية النقدية، لكنه لا يطبّقها بشكل ميكانيكي.
بل يستخدمها كأداة لتحليل البنية العميقة للعقل العربي ـ الإسلامي، خاصة في علاقته
بالسلطة، والمعرفة، والواقع الاجتماعي.
يمثّل الطيب تيزيني (1934 ـ 2019) أحد أبرز المفكرين العرب الذين حاولوا تأسيس مشروع فلسفي ـ معرفي متكامل لتفكيك التراث، انطلاقًا من أرضية داخلية ـ تاريخية لا تستورد أدواتها بالكامل من الخارج، كما فعل البعض، بل تعمل من داخل البنية العربية الإسلامية على تفكيكها وإعادة بنائها.
يرى تيزيني أن التراث العربي ليس وحدة متجانسة، بل ساحة صراع بين اتجاهات
تقدمية وأخرى سلطوية، وبالتالي لا بد من: تحليل بنية التراث داخليًا، كحقل جدلي متحوّل، كشف البنية السلطوية في الفكر التراثي، خصوصًا
في المذاهب التي تحالفت مع الدولة، تبيئة أدوات النقد الفلسفي الغربي داخل البنية
العربية، دون قطيعة استئصالية.
ثالثًا ـ المركزية الإشكالية.. التراث لا الحداثة
في قلب مشروع تيزيني تكمن أطروحة محورية: العقل العربي لم ينهزم أمام
الغرب فقط، بل أمام ذاته أولًا. فالهزيمة تبدأ من الداخل، من طريقة فهمنا للذات وللتراث،
حين يتحوّل هذا الأخير إلى نص مغلق، يُعامل كـ"نموذج نهائي"، لا كمنجز تاريخي
متحوّل.
وبناء على ذلك، لا يدعو تيزيني إلى "هدم التراث" بل إلى نقده
من داخله، عبر: استعادة لحظات التنوير الداخلي في الإسلام،
كالمعتزلة والفكر الفلسفي، قراءة جدلية ـ تاريخية للتراث تضعه ضمن سياق
صراع اجتماعي لا ميتافيزيقي، تفكيك العلاقة بين النص والسلطة بوصفها مصدرًا
للجمود.
رابعًا ـ في سياق ما بعد الهزيمة.. من النكسة إلى الربيع العربي
بدأ تيزيني مشروعه الفكري عقب نكسة 1967، لكنّه استمر في تطويره حتى ما
بعد 2011، حين انخرط فكريًا وواقعيًا في الحراك السوري، معتبرًا أن الربيع العربي هو
لحظة نقد للسلطتين: السياسية والفكرية.
وفي كتابه من التراث إلى الثورة، يقترح أن النقد لا ينبغي أن يتوقّف عند
النخبة أو الفكر، بل يجب أن يتحول إلى مشروع تحرر شعبي، وهذا لا يتم إلا بـ: تفكيك السلطة الثقافية (الدينية، القومية،
الأبوية، إعادة ربط الفكر العربي بـ"سؤال الإنسان" لا فقط بـ"سؤال الهوية"، بناء عقل عربي جديد،
يقوم على المادية الجدلية والتحليل التاريخي.
خامسًا ـ جدل التراث والثورة.. نحو تحوّل نقدي شامل
في المسار الفكري للطيب تيزيني، تتلاقى مسألتان أساسيتان: التراث كثقل
رمزي ـ معرفي، والثورة كرهان تحرّري شعبي. ومن خلال هذا التلاقي، تتبلور نظرته إلى
الفكر العربي ليس كمجال تأملي معزول، بل كجزء من بنية اجتماعية ـ تاريخية يجب تفكيكها.
فالنقد الفلسفي عنده ليس مجرد نشاط ثقافي، بل هو فعل تحويلي له امتداد سياسي وثوري.
تيزيني لا يرى التراث مجرد تراث فكري، بل بوصفه بنية رمزية ذات وظيفة
اجتماعية، غالبًا ما تُسخّر لإدامة الاستبداد، سواء في شكله السياسي أو الديني أو الأبوي.
ولذا، فإن التحرر من هذه البنية لا يتم عبر القطع معها من الخارج، بل عبر تفكيكها من
الداخل، بوسائل فكرية مأصولة، لكن مُحدّثة. وهنا تبرز فكرة "المثقف العضوي"،
الذي لا يكتفي بتشخيص الأزمة، بل يشتبك مع الواقع في لحظاته الحاسمة.
ولعل أهم ما يُميز الطيب تيزيني في هذا السياق، هو أنه يربط بين الثورة
الفكرية والثورة المجتمعية، من منطلق أن أي تغيير سياسي لا يكتمل دون تفكيك البنية
الثقافية التي تبرّره وتعيد إنتاجه. فالتراث، إن لم يُخضع للمساءلة النقدية، يتحول
إلى أداة تبرير للاستبداد. وإن لم يُستعد بوصفه سجلًا للجدل والتنوير والصراع، فإنه
يظل مصدرًا للجمود.
من هنا، تصبح قراءة تيزيني للتراث مشروعًا للتأسيس لما بعد الاستبداد،
لا فقط لما بعد الاستعمار أو الهزيمة. وهو يرى أن النقد الجذري للتراث يشكل مقدمة ضرورية
لأي مشروع تحرري في العالم العربي، لا يمكن اختزاله في استيراد الحداثة أو تكرار النموذج
الغربي، بل يتطلب بناء عقل عربي نقدي، تاريخي، وتحرري.
نحو نقد جذري للعقل العربي.. من التاريخ إلى الثورة
تُظهر مسارات كل من هشام جعيّط، وصادق جلال العظم، والطيب تيزيني كيف
تشكل في الفكر العربي المعاصر تيار نقدي جذري، حاول تجاوز الاجترار التقليدي للتراث
من جهة، والحداثة الشكلية من جهة أخرى، لصالح تفكيك عميق لبنية العقل العربي، في علاقته
بالتاريخ، والدين، والسلطة، والمجتمع.
إن ما يجمع بين هذه التجارب المتمايزة في مناهجها، هو السعي لتفكيك الأسس
الذهنية التي أعاقت تشكّل عقل نقدي عربي، قادر على إنتاج معرفة حرة، وفكر تحرّري، ومجتمع
يعيد التفكير في ماضيه ليفتح أفقًا مختلفًا لمستقبله. لقد أدرك هؤلاء
المفكرون أن التحرر
لا يبدأ من السياسة بل من الفكر، وأن الثورة الحقيقية، كما قال تيزيني، هي تلك التي
"تقتلع الجذور الرمزية للعبودية".
في قلب مشروع تيزيني تكمن أطروحة محورية: العقل العربي لم ينهزم أمام الغرب فقط، بل أمام ذاته أولًا. فالهزيمة تبدأ من الداخل، من طريقة فهمنا للذات وللتراث، حين يتحوّل هذا الأخير إلى نص مغلق، يُعامل كـ"نموذج نهائي"، لا كمنجز تاريخي متحوّل.
وفي زمن التراجعات والنكوص، يظل التيار النقدي الجذري شاهدًا على إمكانية
التفكير من الداخل ضد الاستبداد ومن أجل الإنسان.
لقد آن لنا، كما أراد طيب تيزيني، أن نرى في هذا المشرق ما يتجاوز الجغرافيا
والانفعال اللحظي. أن نستعيده مشروعًا للكرامة لا مجرد ساحةٍ للتجارب المجهضة. فثمة
ولادات جديدة لا تأتي من رحم الإمبراطوريات، بل من الأجساد المثقلة بالتاريخ والمفتوحة
على الأمل؛ نهضة، إن وُلدت، فلن تأتي من فوق، بل من حيث يُصنع الخبز وتُخاط الأحلام،
ومن حيث ينبت الحرف حين يلتقي العرق بالحلم.
وكم كان الطيب تيزيني يحلم بسوريا تُطوى فيها صفحات الاستبداد، وتُفتح
فيها منابر الحوار، وتسترد فيها الكلمة مكانتها كمفتاح للتاريخ لا كأداة للزينة. لكنه
مضى قبل أن يرى الحلم ماثلًا على أرض دمشق، وعلى مقربة من جبل قاسيون، حيث احتفل السوريون
أخيرًا بانتهاء عهد البعث وسقوط حكم الأسد "إلى الأبد". وهناك، في المدينة
التي شهدت ولادته وفي ترابها يرقد، تنبعث إرادة الحياة في قلوب أبناء خالد بن الوليد،
وقد آن لهم أن يجمعوا رأيهم وأملهم على بناء وطنٍ مغاير، يُكتب بعقول أبنائه لا بمراسيم
الطغيان.
لعل ما لم يره طيب تيزيني بعينيه، تراه أفكاره وهي تُبعث في الأجيال الجديدة،
تُنبت المعنى في ركام الخراب، وتدلّ ـ رغم كل شيء ـ أن العقل العربي لم يُخلق ليركع،
بل لينهض.
وسيجد هذا الانبعاث صداه وتكامله في أطروحات علم آخر من أعلام الفكر العربي
المعاصر، الدكتور برهان غليون، ابن ذات المدينة التي أنجبت طيب تيزيني، وجعلت من ترابها
مقامًا لجسد خالد، ومن وجدانها ميراثًا لفكرة لا تموت: أن لا نهضة بلا حرية، ولا وطن
بلا عدالة، ولا تاريخ بلا إنسان.