قضايا وآراء

أفكار حول "الميثاق الوطني" في تونس قبل الثورة وبعدها

عادل بن عبد الله
"استطاع الرئيس ومنظومة الحكم الجديدة فرض هندسة أحادية للمشهد العام وإلغاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية ذاتها"- جيتي
"استطاع الرئيس ومنظومة الحكم الجديدة فرض هندسة أحادية للمشهد العام وإلغاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية ذاتها"- جيتي
بعد إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 وهيمنة سردية "تصحيح المسار" على المشهد التونسي، بمنطق "التأسيس الثوري الجديد" القائم على احتكار تمثيل الإرادة الشعبية وتهميش الأجسام الوسيطة، لم يكن مصير ما سُمّي بـ"دستور الثورة" والديمقراطية التمثيلية التي صيغ وفق فلسفتها السياسية؛ أفضل من مصير الفاعلين الجماعيين الذين هندسوا "الفاصلة الديمقراطية" أو عشرية الانتقال الديمقراطي بمنطق توازن القوة أو "التوافقات الهشة". وقد ألغت "فتنة" كتابة دستور جديد يحل محل دستور النظام القديم أي حاجة إلى "الميثاق الوطني"، فالدستور أعلى رتبة من أي نص آخر مهما كانت صفته الدينية أو المعلمنة، بل إن عدم طرح مسألة "الميثاق" في المرحلة التأسيسية كان تعبيرا عن شكل من أشكال القطيعة مع خيارات النظام السابق ووعوده التي أثبتت الأحداث عدم جديتها، خاصة الميثاق الوطني الذي وقّعه نظام المخلوع مع بعض الأطراف -وأهمها حركة النهضة- في الذكرى الأولى لانقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987.

من الناحية النظرية، كان الميثاق الوطني الذي صيغ على عيني المخلوع أرضية صلبة لبناء المشترك الوطني وهندسة مشهد سياسي طبيعي. فالميثاق قد وعد بالقطع مع "نظام الحرب الواحد وتهميش المؤسسات وشخصنة الحكم والانفراد بالسلطة"، كما اعتبر بيان 7 نوفمبر أنه قد جاء "ليضع حدا للانحراف والزيغ، وليعيد صلة التواصل الحي مع أهداف حركة النهضة والإصلاح وغاياتها".

بعد سقوط دستور "الثورة" ومعه الأجسام الوسيطة ومخرجات "الانتقال الديمقراطي" من الهيئات الدستورية وغير الدستورية، وبعد أن استطاع الرئيس ومنظومة الحكم الجديدة فرض هندسة أحادية للمشهد العام وإلغاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية ذاتها، عادت فكرة "الميثاق الوطني" إلى واجهة المشهد السياسي "المعارض" جذريا للنظام

وبصرف النظر عن محدودية عدد الموقعين على الميثاق وعدم تعبيرهم عن مجمل مكونات المشهد السياسي/الأيديولوجي في تونس، فإن نظام المخلوع سرعان ما استعاد منطق النظام السابق -أي النظام البورقيبي- ودفع بها إلى أقصاها باستهداف أهم طرف سياسي وقّع على الميثاق -أي حركة النهضة- مستندا في ذلك إلى دعم صريح أو تواطؤ ضمني من بعض الأطراف الموقّعة هي الأخرى على الميثاق (مثل الرابطة التونسية لحقوق الانسان)، وغيرها من الأجسام الوسيطة القانونية وغير القانونية والمنتمية أساسا إلى ما يُسمى بـ"اليسار الوظيفي".

لم يكن الميثاق الوطني في جوهره إلا استراتيجية سلطوية لكسب الوقت وتحييد أهم طرف إسلامي في تونس في انتظار بناء جبهة "وطنية" داخل الحزب الحاكم وخارجه، للتخلص من هذا العدو الوجودي "للنمط المجتمعي التونسي" ومشروع "التنوير". وهو ما يعني تهميش الميراث الاستبدادي للبورقيبية وإعادة تدويرها في السردية السلطوية الجديدة باعتبارها "الخطاب الكبير" الذي لا مكان فيه "للخوانجية".

فبعد أن ربط "الميثاق الوطني" بورقيبة بنظام الحزب الواحد وبتهميش المؤسسات وشخصنة السلطة والانفراد بالسلطة.. الخ، أصبح بورقيبة هو نقطة تجميع "الحداثيين" لمواجهة عدو واحد هو "الخوانجية". ولم يكن من المفكر فيه طي "الميثاق" أو خارجه نقد طبيعة السلطة وجوهرها الجهوي-الريعي-الزبوني التابع. فالنظام الذي تشكل بعد انقلاب أبيض على بورقيبة، لم يكن يستطيع أن يعترف بجوهره "الجهوي" في أية وثيقة، ولا يمكنه كذلك أن يسمح بتحول هذه المسألة إلى قضية رأي عام، كما أن حركة النهضة وغيرها لم يكونوا يملكون الجرأة لطرح هذه القضية خوفا من الاتهام بـ"الجهوية" أو بضرب الوحدة الوطنية. وهو أمر حرصت النواة الصلبة لمنظومة الحكم على أن يستمر حتى في المرحلة التأسيسية وما أعقبها من مراحل بعد "الثورة".

بعد سقوط دستور "الثورة" ومعه الأجسام الوسيطة ومخرجات "الانتقال الديمقراطي" من الهيئات الدستورية وغير الدستورية، وبعد أن استطاع الرئيس ومنظومة الحكم الجديدة فرض هندسة أحادية للمشهد العام وإلغاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية ذاتها، عادت فكرة "الميثاق الوطني" إلى واجهة المشهد السياسي "المعارض" جذريا للنظام، وعادت كذلك إلى سردية بعض الأطراف التي تقاطعت مع سردية تصحيح المسار أو مهّدت أو ما زالت تعتبر نفسها جزءا من "الموالاة النقدية".

ونحن نتحدث عن "فكرة الميثاق الوطني" عن قصد، فأغلب الأجسام الوسيطة -خاصة في المجتمع المدني أو النقابي- لم تطرح "الحوار الوطني" إلا بمنطق البحث عن "ميثاق" جديد يعيد التفكير في علاقة السلطة بـ"العائلة الديمقراطية"، داخل سردية تصحيح المسار لا خارجها، أي "ميثاق" ينفتح على منطق الشراكة مع مكونات تلك العائلة دون أن يكون مضطرا لإعادة التفكير في علاقة العداوة الوجودية مع حركة النهضة وحلفائها. فأغلب مكونات المجتمع المدني ترفض الرجوع إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021، أي ترفض النظام البرلماني الذي يضع النهضة في مركز الحقل السياسي. وهي لا تعارض الهندسة السلطوية لهذا الحقل ولا المصادرة على الإرادة الشعبية إلا في مستوى تعامل النظام مع "القوى الديمقراطية"، أي في مستوى تهميش ورثة التجمع وحلفائهم في اليسار الوظيفي وعدم إشراكهم في صناعة القرار "السيادي".

أمّا بعض القوى اليسارية المعارضة جذريا للنظام -خاصة حزب العمال بقيادة السيد حمة الهمامي- فإنها تشترك مع السردية السابقة في رفض العودة إلى مربع 24 يوليو 2021، ولكنها تعلن عدم مساندتها لسردية تصحيح المسار بلا لبس. كما يشترك حزب العمال مع السردية المدنية أو النقابية في التوجه إلى "القوى الديمقراطية التقدمية" دون غيرها، وهو ما يجعل سقف سرديته السياسية سقفا طاردا لكل "القوى الرجعية" بما فيه حركة النهضة. وقد كان زعيم هذا الحزب أحد الأطراف المشكّلة لـ"هيئة 18 أكتوبر (تشرين الأول) للحقوق والحريات" التي أنشئت رسميا في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2005، ودعت إلى "بلورة عهد ديمقراطي يكفل لكل المواطنين والمواطنات المساواة والحريات والحقوق الأساسية غير القابلة للتصرف أو الاستنقاص، ويشكل قاعدة للمشاركة السياسية والتداول على الحكم على أساس تنافس البرامج والرؤى".

ورغم أن هذه المبادرة جوبهت برفض أغلب مكونات اليسار الوظيفي -خاصة حركة الوطنيين الديمقراطيين وبعض الشخصيات النقابية والحقوقية- التي أصدرت في شباط/ فبراير 2006 وثيقة "حول انحراف داخل اليسار أو عندنا يضل رفاق الطريق"، فإن هيئة 18 أكتوبر كانت حدثا "تقدميا" حقيقيا، لا بالمعنى "الاستعماري التغريبي" الذي يتبناه اليسار الوظيفي، بل بمعنى الخروج عن منطق الصراع الهوياتي والاعتراف بإمكانية العمل "مع" الإسلاميين، وليس بالضرورة ضدهم أو على أجسادهم وأرواحهم كما هو دأب اليسار الوظيفي قبل الثورة وبعدها.

كان "العهد" الذي دعت إليه الهيئة ضربا من "الميثاق الوطني" الذي أُنجز خارج أروقة النظام، ولكنه عهد لا يطرح نفسه بديلا بل يدعو إلى إعادة تأسيس قواعد العيش المشترك والعمل السياسي. وقد كان رد النظام على هذه الدعوة موجودا في وثيقة "الانحراف" المذكورة أعلاه. فاليسار الوظيفي -خاصة الوطد- كان يُعبّر عن موقف السلطة الرافض لأي عملية تفاوض جماعي قد تنسف أسس النظام الجهوي-الريعي-الزبوني القائم، وكان التقاء الإسلاميين بباقي مكونات الطيف السياسي -خاصة اليسار- خطرا وجوديا على النظام. ولذلك أطلق "كلاب الحراسة الأيديولوجية" (على حد تعبير بول نيزان) لتشويه تلك المبادرة ووأدها.

أما بعد الثورة، فإن حزب العمال لم يحافظ على روح تلك المبادرة التي كانت قاعدة صلبة لأي مشترك مواطني يتجاوز منطق الاستئصال الصلب والناعم ويتخارج مع منظومة الاستعمار الداخلي، وهو ما جعله يتقارب مع "الوطد" الذي ظل وفيا لدوره في خدمة النواة الصلبة لمنظومة الحكم قبل الثورة وبعدها. ورغم أن وضع حزب العمال في خانة "اليسار الوظيفي" هو أمر ملتبس، فإنّ ما قدمه واقعيا من خدمات للمنظومة القديمة يجعل القول بارتداده عن روح "18 أكتوبر" حكما غير مجانب للصواب، وهو ارتداد لا يمكن مقارنته بأسباب تشتت مكونات هيئة 18 أكتوبر بسبب المواقف المتباينة من الانتخابات الرئاسية سنة 2009. ولا شك عندنا في أن حكم ارتداد أغلب مكونات 18 أكتوبر عن روح تلك المبادرة هو حكم يشمل حركة النهضة ذاتها بعد أن اختارت التوافق مع ورثة المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة، أي بعيدا عن انتظارات ناخبيها وعموم المواطنين والمواطنات.

بالنسبة إلى ما يسمى بـ"الدساترة" -أي ورثة التجمع المنحل- فإنهم قد تعاملوا مع "دستور 2014" باعتباره دستور "الخوانجية" وليس باعتباره دستور كل التونسيين. ورغم المكاسب التي ضمنها ذلك الدستور لما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" وأساطيرها التأسيسية، فإن وجود "الخوانجية" ذاته داخل الحقل السياسي القانوني هو أمر لا يمكن أن يحتمله الكثير من "الدساترة"، خاصة السيدة عبير موسي، زعيمة "الحزب الدستوري الحر". ولذلك كانت السيدة عبير من أكبر المحرضين على الانقلاب على "الفاصلة الديمقراطية" دون أن تتماهى مع سردية تصحيح المسار، بل إنها اعتبرت أن "تصحيح المسار" مدين لها بالنجاح. فهو لم يكن لينجح لولا ترذيلها المتعمد للبرلمان ولولا مساهمتها الفعالة في شيطنة "الخوانجية" وإنضاج الشروط الفكرية والموضوعية لإغلاق البرلمان.

السلطة غير معنية بتغيير مقاربتها "التأسيسية" للمجال العام، بما في ذلك المجالين السياسي والمدني. فـ"تصحيح المسار" لم يقبل بأي حوار وطني مهما كانت الجهة الداعية إليه

ولكنّ ما غاب عن السيدة عبير -وعن الأغلب الأعم من "الديمقراطيين"- أن تصحيح المسار هو مشروع "استبدال" وليس مشروع "شراكة"، وأنه لا يقبل أن يكون مدينا إلا لإرادة شعبية "متخيلة" لا علاقة لها بالأجسام الوسيطة التي اعتبرها "خطرا جاثما" أشد أذى من "الخطر الداهم" الذي برر إجراءات 21 تموز/ يوليو 2021.

وبعد وضع زعيمته في السجن، توجه الحزب إلى باقي مكونات المعارضة طارحا "ميثاقا وطنيا" محصورا هو الآخر في "القوى" المؤمنة بالدولة المدنية وبقيم الحداثة كما يفهمها العقل "الحداثوي" البورقيبي. وهو ما يعني إقصاء "الخوانجية" كما هو حاصل في كل مشاريع "الحوار الوطني" و"الجبهات السياسية" التي تصدر من مكونات "العائلة الديمقراطية" السياسية والحقوقية والنقابية.

أمام كل هذه السرديات، يبدو أن السلطة غير معنية بتغيير مقاربتها "التأسيسية" للمجال العام، بما في ذلك المجالين السياسي والمدني. فـ"تصحيح المسار" لم يقبل بأي حوار وطني مهما كانت الجهة الداعية إليه، ولا يمكن أن يكون "الميثاق الوطني" داخلا في دائرة المفكر فيه ضمن هذه السردية السياسية. فالحوار يعني الاعتراف الضمني بوجود أطراف أخرى تمثل الإرادة الشعبية التي يحتكرها النظام وهيئاته المحلية والجهوية والوطنية. كما أن دستور 2022 يغني عن أي ميثاق، فهو الميثاق الأوحد الذي ينبغي على الجميع العمل من داخله وإلا كانوا من "المتآمرين" و"الفاسدين"، وغير ذلك من الأوصاف التي لا تتردد السلطة وموالاتها في وصم أي معارضة بها.

أما حركة النهضة، فإنها -بحكم إقصائها من أي مشروع لميثاق وطني يقدمه "الديمقراطيون" الوازنون- ما زالت تتمسك بدستور 2014 باعتباره الميثاق الوطني "المدستر"، وهو موقف تشترك فيه مع بعض الأصوات الفردية وغير الوازنة في "العائلة الديمقراطية". وهو ما يجعلها في مواجهة مع أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" ومع طيف غير قليل من التونسيين الرافضين للعودة إلى مربّع 24 تموز/ يوليو وديمقراطيته "الصّورية".

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)