أفكَار

وجهة نظر في منهجية دراسة تشكل الوعي الديني في المشهد العربي الإسلامي

الأفراد في المجتمع المسلم، مع معرفتهم العامة أو التفصيلية بأحكام الشريعة برمتها، فإن ما يستقر عندهم جميعا من مشترك، هو ما نسميه المفهوم الديني المشترك..
الأفراد في المجتمع المسلم، مع معرفتهم العامة أو التفصيلية بأحكام الشريعة برمتها، فإن ما يستقر عندهم جميعا من مشترك، هو ما نسميه المفهوم الديني المشترك..
كثير من الباحثين حينما يصطدمون بسؤال هيمنة الدين والفاعل الديني على المشهد الثقافي العربي يلتمسون تاريخ العلوم الشرعية، بقصد مقاربة ودراسة بنية العقل العربي، والنظم المعرفية التي تحكمه في محاولة للإجابة عن أزمة الثقافة العربية.

لقد انشغل الدكتور محمد عابد الجابري بالقواعد التي تنتظم العقل العربي، وبين إلى حدود كبيرة قواعد النظام البياني، وكيف يرتهن إلى اللغة والقياس، وقواعد النظام العرفاني، وكيف يقوم أساسا على منطق استقالة العقل، لكن هذا الاشتغال المعني أساسا بالقواعد، يهم بالأساس تشكل العلوم الشرعية ومنطق تطورها، لاسيما منها علم الأصول والفقه، أي أنه يجيب عن سؤال تشكل المعرفة الدينية العلمية، ولا يجيب عن سؤال تشكل المعرفة الدينية بعمومها وتفريعاتها المعقدة.

من المؤكد أن المعرفة الدينية العلمية الأصولية والفقهية هي التي تصنع الأسس المحورية التي تكيف موقف المسلم وسلوكاته العملية، لأنها تدور حول الأحكام العملية، وتؤسس للقواعد التي تستفاد منها هذه الأحكام، لكن المعرفة الدينية، لا تدور كلها حول الأحكام، فمساحة الفقه في العقل المسلم تظل محدودة محدودية آيات الأحكام قياسا إلى آيات القرآن الكريم.

ولذلك، لا يمكن الارتهان إلى المعرفة الدينية العلمية لتفكيك سؤال كيفية تشكل الوعي الديني في المشهد الثقافي، لأن هذه المعرفة، بالاعتبار العلمي نفسه، لا تستوعب كل الحقول المعرفية، فالجابري على سبيل المثال، لم يهتم بعلوم التفسير وعلوم الحديث وعلوم القرآن، ولم يبسط الكلام في قواعد هذه العلوم، مع أنها تمارس دورا مؤثرا في صناعة المحتوى الديني العلمي.

من المؤكد أن المعرفة الدينية العلمية الأصولية والفقهية هي التي تصنع الأسس المحورية التي تكيف موقف المسلم وسلوكاته العملية، لأنها تدور حول الأحكام العملية، وتؤسس للقواعد التي تستفاد منها هذه الأحكام، لكن المعرفة الدينية، لا تدور كلها حول الأحكام، فمساحة الفقه في العقل المسلم تظل محدودة محدودية آيات الأحكام قياسا إلى آيات القرآن الكريم.
فإذا كان الجواب عن سؤال تشكيل المعرفة الدينية العلمية بمقتضى هذه الكتابات غير مستوعب، فإن المشكلة تطرح بشكل أكثر تعقيدا إذا مررنا من الإطار الضيق (المعرفة الدينية العلمية) إلى الإطار الأوسع (المعرفة الدينية).

من هذه الزاوية، يكتسي البحث عن سؤال كيفية تشكل الوعي الديني أهميته في المشهد الثقافي العربي، وتبرر الحاجة إلى تقديم إسهامات علمية تحاول ملأ الفراغ المعرفي الحاصل على هذا المستوى، أو على الأقل تقديم ما يمكن أن يخدم هدف تحقيق التراكم المعرفي وتأطير الموضوع من جميع زواياه المختلفة.

تشكيل الوعي الديني.. بين العلوم الشرعية والمفاهيم الأساسية للدين

أشرنا سابقا إلى الفروق بين المعرفة الدينية وفرعها الخاص، المتعلق بالمعرفة الدينية العلمية، وأشرنا إلى محدودية التناول المنهجي للمعرفة الدينية العلمية بسبب استبعاد حقول معرفية مؤثرة (التفسير، عل القرآن، علوم الحديث، وغيرها) وبسبب أن المعرفة الدينية هي أوسع فضاء من هذه المعرفة الخاصة رغم أنها تدرس قواعد تشكيل المعرفة الإسلامية.

هذا التمييز مهم، لأنه يدفعنا إلى تدقيق مجال الاهتمام، إذ لن يقع بالأساس على انشغالات النخبة (العلماء وكتبهم المحورية في المعرفية الإسلامية الشرعية)، وإنما سيقع على الطريقة التي تتشكل بها المفاهيم المعرفية العامة عن الدين، بما في ذلك المفاهيم الفقهية.

قد يبدو هناك نوع من التناقض في الاستدراك الأخير، لكن وجه الانسجام في الموضوع، أن البحث لا ينبغي أن يقع تركيزه على القواعد التي تنتج الحكم الشرعي الذي يتلقفه الناس، ويصبح مؤطرا لسلوكهم، بل ينبغي أن يقع من باب أولى على المفاهيم الأساسية التي تصنع الوعي الديني.

والفرق بين الأمرين، أن البحث في طرق تشكيل المعرفة الفقهية يدخلنا في جدل المدارس الفقهية، وما استقر عندها من أصول وقواعد، وكيف يتبنى المتمذهب بهذا المذهب هذا الحكم الشرعي، ويتبنى الآخر خلافه، وكيف يتبلور مذهب فقه الدليل الذي لا ينضبط لمذهب، أي إننا في المحصلة، نريد البحث في مشكلة الثقافة، ونتحول بشكل عبثي إلى درس من دروس الفقه العالي المقارن، في حين يعنى البحث في المفاهيم الدينية، والأطر العامة التي تصنع الثقافة الجامعة داخل المجتمع، أو تصنع التيار المهمين على المشهد الثقافي في المجتمع.

تفسير ذلك، أن دراسة تمايزات الوعي الفقهي داخل مكونات المجتمع، لا يقدم أي جواب عن سؤال هيمنة الوعي الديني على المشهد الثقافي، فالذي يقول بوحدة المطالع في صيام شهر رمضان وتحديد زمن العيدين أو يقول باختلافها، والذي يقول بجواز عمل المرأة أو يقول بعدمه، لا يؤثر في طبيعة الثقافة التي يهيمن عليها الوعي الديني، بخلاف المفهوم المترسخ في الثقافة المجتمعية الذي يرى أن التسامح لا يقتضي السماح للمسلم بالإفطار علنا في شهر رمضان، لأن ذلك يمثل استفزازا غير مقبول للضمير الديني،   فهذ المفهوم أضحى قناعة عامة، لا يؤثر فيها اختلاف المتمذهبين، ولا الفروق بين الحامل لأعلى مراتب المعرفة الدينية العلمية، والذي لم يحظ إلا بالقليل من المعرفة لدينية العامة.

وحتى نزيد في التدقيق العلمي أكثر، فإن الأحكام الفقهية نفسها، لا تأخذ مرتبة واحدة في ثقافة الفرد داخل المشهد الثقافي العربي، فعلى سبيل المثال، يقع الاختلاف بين العلماء في الحكم الفقهي من الفوائد البنكية، وتجد آراء تضع فروقا بين الربا المحرم وبين الفوائد البنكية، لكن المفهوم العام المتعلق بحرمة الربا، والتي تزكيه النصوص الدينية، يغلب هذه التفريعات، ويصنع مزاج الفرد في المجتمع العربي الإسلامي، بل يصنع حتى التصنيفات التي تربط القائلين بإباحة الفوائد البنكية بالسلطان، ويتم التمييز في ذهن الفرد بين علماء الدين الربانيين وعلماء السلطان التابعين للأهواء أو المفتين حسب الطلب.

في خصائص المعرفة الدينية المشكلة للوعي الديني

قد يعترض معترض، ويرى أن تشكيل المفهوم الديني العام هو نفسه يكتسي نفس الطابع من التعقيد، فالمفهوم قد يتشكل في البيت من خلال قصة أو موعظة أو توجيه أو إرشاد أسري، وقد يتشكل في المدرسة، وقد يتشكل في المسجد، وقد يتشكل في الجامعة، وقد يتشكل عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد يتشكل حتى داخل الوسط الاجتماعي، وفي الشارع، فكيف يمكن الإحاطة بكل هذه المجالات التي تتم فيها هذه العملية، وأي منهج وأي حقل معرفي يمكن أن يضطلع بهذه المهمة، وأنه إذا كان من الصعب الإحاطة بتشكل المعرفة الدينية بالنظر إلى المضمون الديني الذي ينتجه الفاعل الديني، أو الفاعل المشتبك مع الفاعل الديني، فإن الأمر بالنسبة إلى صياغة المفاهيم الدينية العامة سواء.

يبدو هذا الاعتراض جديا، فالمفاهيم هي الجزء الأساسي من المعرفة، أو هي المركب الأساسي لها، وأنه ما دمت الصعوبة في معرفة كيفية تشكل المعرفة الدينية حاصلة، فالأمر سيكون قدر البحث في المفاهيم الدينية.

لكن عند التدقيق، نجد أن الفارق كبير بين المعرفة الدينية في مستوياتها العلمية والعامة، وبين المفاهيم الدينية في طابعها العام المشترك، فواضح من جهة الشكل، أن مجال البحث يتناول جزئية مخصوصة مقدور من الناحية العلمية على الإمساك بها، فنحن بإزاء المفاهيم الدينية التي تكتسي طابع العموم والاشتراك بين عموم الأفراد داخل المجتمع، ولا نتحدث عن مختلف فروع ومكونات وأجزاء المعرفة الدينية، ونحن بإزاء مفاهيم مشتركة يتقاسمها المجتمع أو القطاع المهيمن ثقافيا داخله،  بحيث لا تؤثر الاختلافات المذهبية، ولا التباينات في حقول المعرفة الدينية، ولا أدوات تشكيل الوعي الديني في مضمونها.

ففي كل المساحات التي تخترقها المذاهب الفقهية المختلفة،  ومهما يقع الاختلاف بين مستويات المعرفة الدينية العالمة أو الشعبية، ومهما يكن الفاعل الذي يقوم بمهمة التنشئة الدينية، أبا  أو أما أو أستاذا أو خطيبا أو إماما أو واعظا أو  تأطيرا دينيا رسميا أو تأطيرا من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، أو تداولا في الوسط الاجتماعي، فإن هذه المفاهيم الدينية العامة التي تؤثر في المشهد الثقافي العربي تظل هي نفسها، بما يجعل أي انفراد بمستوى من هذه المستويات في تحليل كيفية الانتقال من المعرفة الدينية إلى المفاهيم الدينية المشتركة  كافيا ومفيدا في تفسير كيفية تشكل الوعي الديني.

لكن هذه الكفاية والإفادة لا تعني استواء هذه المستويات في المراتب، فقد يضطلع مستوى من هذه المستويات بدور أكبر في صياغة الوعي الديني، ويكون للمستوى الآخر، مستوى أقل، أو وظيفة مختلفة، فيكون لهذا المستوى دور التأسيس والبناء المفاهيمي، ويكون للآخر دور التثبيت أو استدراك وتصحيح المفاهيم المرتبطة بالتمثلات المشوشة في ذهن المتلقي للمضمون الديني. وقد يكون للأسرة دور إرشادي لمفاهيم تربوية وأخلاقية وعقدية، ويكون للتربية والتكوين دور في صناعة المفاهيم التصورية والمعرفية، وقد يكون للتأطير الديني وظيفة صياغة المعرفة الدينية المتعلقة أكثر بالواجب المدني، وقد يكون للشارع وللوسط الاجتماعي دور في إذكاء وتغذية المعرفة الدينية الطقوسية، بحيث تختلف هذه المستويات في المراتب من جهة نسبة المساهمة في تشكيل الوعي الديني، ومن جهة نوع الوظيفة التي تقوم بها، وأيضا من جهة نوع المفاهيم التي ترسخها. لكن في المحصلة، تخدم هذه التباينات نفس الهدف، أي صياغة المفاهيم الدينية المشتركة التي تؤطر المجتمع برمته أو على الأقل تصنع التيار المجتمعي المهيمن على المشهد الثقافي.

المفاهيم الدينية المشتركة

قد يكون المشترك هو الحد الذي يتواطأ عليه الناس من غير خلاف، وغالبا ما يرافقه اصطلاح "الأدنى"، فيقال المشترك الأدنى، أي ما تحصل الاتفاق عليه، على اعتبار أن غالب ما يتوافق عليه الناس يكون قليلا بالمقارنة مع ما يختلفون حوله.

المشترك الذي يصنعه الدين بين أفراد المجتمع، يدخل كل المساحات، بما في ذلك مساحة الطقوس، والتقاليد، والأذواق والجماليات، بل يتدخل ليكيف الزمان والمكان، ويدخل في تفاصيل تتعلق بالطعام والجلوس والمنام واللباس والزينة، بل يدخل حتى في المجال الحميمي، ويحدد كيفية الاستمتاع وآدابه وشروطه.
قد يكون هذا صحيحا في التقديرات العقلية والمصلحية، بحكم اختلاف التموقعات والمصالح وتدخل الأهواء، لكن بالنسبة إلى الدين، فإن مساحة المشترك ربما تأخذ مساحة أكبر، لأن مضامينه المباشرة، تتعلق ابتداء بمصالح المجموع، وعدم التحيز لفرد دون آخر، ولا لفئة أو لطبقة دون أخرى.

فالمشترك الذي يصنعه الدين بين أفراد المجتمع، يدخل كل المساحات، بما في ذلك مساحة الطقوس، والتقاليد، والأذواق والجماليات، بل يتدخل ليكيف الزمان والمكان، ويدخل في تفاصيل تتعلق بالطعام والجلوس والمنام واللباس والزينة، بل يدخل حتى في المجال الحميمي، ويحدد كيفية الاستمتاع وآدابه وشروطه.

ومن ثمة وجب التمييز هنا، بين العنت الكبير الذي يحصل في التقديرات العقلية والمصلحية لتحصيل مجرد حد أدنى مشترك، وبين اليسر الذي يخلق فيه الدين المساحات الواسعة من المتفق عليه، والتي لا تدخل حتى إلى الفضاء الخاص.

ولذلك، قلما تجد في المجتمع كتلة كبيرة من الأفراد تغتسل يوم الجمعة، وتأخذ زينتها في اللباس، وتتطيب بأجمل الطيب، وتخرج مبكرا لحضور صلاة الجمعة، وتأكل تقريبا وجبة واحدة، وتتعاظم لديها في هذا اليوم قيمة الكرم وصلة الرحم زيارة الأقرباء.

هذا المشترك الذي تتسع تفاصيله أو تضيق بحسب درجة تأثير التحولات المجتمعية عليه، هو بالملاحظة الأنثروبولوجية مشترك ثقافي، يصعب أن نجد تفسيرا له بمعزل عن تدخل الدين في صناعة المفاهيم المشتركة.

ليس القصد في عملية التجديد المفاهيمي أن نستقرئ النصوص الدينية التي تصنع هذا المشترك في تصورات الناس وسلوكاتهم اليومية، وإنما القصد أن نلفت الانتباه إلى أن ما يشكل الوعي الديني، هو الذي يكتسب طابع المفهوم المشترك الذي يتمثله المجتمع في صورة رؤى وتصورات وقيم ومواقف وسلوكات.

وإذا كان مفهوم المشترك قد استبان بهذه الطريقة التمثيلية، فإن المفاهيم الدينية، التي تتسم بهذه التوصيف، تحتاج إلى تحديد ماهيتها، وهل يقصد بها مجمل الرؤية العقدية التي جاء بها الدين، أو  السلوك التزكوي الذي يرسم النموذج الأعلى للروحية التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، أو الرؤية الخلقية التي بثها، أو التعاليم الدينية التي تنظم التعبدات المختلفة والتقاليد الدينية (الأعياد والمناسبات الدينية) أو الأحكام الأخلاقية (الآداب) التي تنظم الحياة التفصيلية للفرد (جلوسه، أكله وشرابه، منامه، ولباسه، وشكل تعامله مع قارعة الطريق... )، أو الأحكام الفقهية التي تؤطر علاقاته الأسرية والاجتماعية، أو عقوده المدنية وتعاملاته المالية،  أو القواعد التي يُرسي بها الدين أسس إدارة الدولة وعلاقاتها في السلم والحرب؟

في التحديد المدرسي الذي يقدم به الدين، دائما ما يتم الميل إلى تقسيم مكوناته إلى أربعة أقسام: عقائد، وعبادات، وأخلاق وشريعة، فهل يقصد بالمفاهيم العامة هذه الأربعة وما يدخل ضمنها من تفاصيل؟

بالتأكيد لا، فإذا كان المقصود ذلك، فإن التمايز الذي أقمناه سابقا بين المعرفة الدينية العلمية والمعرفة الدينية العامة، وبين أحكام ورؤى الدين في كل مستوياته العقدية والأخلاقية والتعبدية والتشريعية، تصير شيئا واحدا مع المفاهيم الدينية المشتركة التي نحن بصدد تحيد ماهيتها.

ولذلك، ربما نحتاج أن نستعير من عالم الأصول والمقاصد الطاهر بن عاشور في تقسيمه للمقاصد شيئا نستعين به في بيان المقصود من المفاهيم الدينية المشتركة، فقد درج على أن يقسم المقاصد إلى عامة، وخاصة وجزئية، فالعامة، ما أطرت أحكام الشريعة برمتها، والخاصة ما أطرت بابا من أبوابها، مثل الزواج أو الطلاق، فتكون المقاصد الخاصة متعلقة بالباب برمته، والجزئية، ما أطرت حكما جزئيا بعينه.

ملخص الإفادة أن الأفراد في المجتمع المسلم، مع معرفتهم العامة أو التفصيلية بأحكام الشريعة برمتها، فإن ما يستقر عندهم جميعا من مشترك، هو ما نسميه المفهوم الديني المشترك، وكذلك الأمر، في القضايا الخاصة، ففي الزواج، لا يهم في المفهوم المشترك ما يعرفه الأفراد داخل المجتمع المسلم من أحكام تفصيلية تخص هذا الباب، بل ما يهم هو القناعة المشتركة الخاصة التي يصنعها الدين بشأن مؤسسة الزواج، وكذلك الأمر بخصوص القضايا الجزئية، التي تندرج ضمن مباحث خاصة، من قبيل الربا التي  تندرج ضمن أحكام المعاملات المالية، أو الزنا، التي تندرج ضمن الرؤية الخلقية للدين، أو التسامح الذي يندرج ضمن الأخلاق الاجتماعية التي دعا إليها الدين.

هذه الاستعارة مفيدة، لكن فقط من وجه إجرائي، وإلا فالخلاف قائم وكبير، فالمقصد التي يستقرأ داخل علم المقاصد سواء كان عاما أو خاصا أو جزئيا، يحتكم إلى قواعد وطرق يتم بها إثبات المقاصد، يستثمر كله تقريبا عبر آلية الاستقراء، في حين يصعب في حال تشكل المفهوم الديني المشترك الحديث عن قواعد وطرق إثبات لأن الأمر لا يتعلق بنخبة علمية تحتكم إلى القواعد في تشكيل قناعاتها، وإنما يتعلق بجمهور تختلف طرق استثماره وتحصيله للمعرفة الدينية.

وبناء على هذا التمييز، تتحدد وجوه الإفادة الإجرائية من درس المقاصد عند الشيخ الطاهر بن عاشور فقط في التقسيمات، أي تقسيم المفاهيم المشتركة بحسب عمومها وخصوصها وجزئيتها، وذلك بحسب الموضوعات والقضايا المتعلقة بالدين، أما من جهة طريقة تشكل هذه المفاهيم، فالأمر مرتبط من جهة بطبيعة المضمون الديني، ومرتبط من جهة أخرى، بالحاجة والوظيفة التي يؤديها هذا المضمون في سياقه المجتمعي، تلك الحاجة أو الوظيفة التي تحددها وتصقلها الخبرة الاجتماعية على مدى زمني ممتد، حتى لا نتحدث عن براغماتية مؤقتة للدين، تأخذ طابع التغير بحسب الحاجة الاجتماعية، وبحسب قدرة المجتمع على الانتقاء والتخبر من أحكام الدين.

ربما يتضح المفهوم بالمثال أكثر، فلنأخذ مبحث الزواج لهذا الغرض. وهو المبحث الذي فصل الدين مقدماته وأركانه وأحكامه وحتى التوجيهات المتعلقة بالعلاقة بين الزوجين، وبين مقاصد الزواج وفصلها تفصيلا دقيقا.

هذه المفاهيم التفصيلية المرتبطة بالزواج، قد يتعرف عليها الفرد وقد لا يتعرف عليها، وقد يعرف بعضها وقد يجهلها، لكن، ما لا يجهله أحد من أفراد المجتمع بهذا الخصوص، أن الذي تزوج فقط أكمل دينه، فيتلقى كل مقبل على الزواج في المجتمع العربي الإسلامي تعليقا موحدا مضمونه: "أكلمت دينك".  وهكذا يكون المفهوم الديني المشترك من الزواج هو إكمال الدين، وهو ما لا يختلف فيه أحد، فيما تتمايز الأفهام والمعارف بخصوص التفصيلات المتعلقة بمباحث الزواج.

ليس المقصود من هذا التمثيل حول مبحث الزواج أنه لا يستقر في تمثلات الزواج عند الجمهور سوى مفهوم واحد مشترك هو إكمال الدين، بل ثمة مفاهيم دينية مشتركة أخرى، لكن شرط وصفها بهذا التوصيف (المشترك) ألا يثبت الاختلاف في تمثلات الجمهور بشأنها.

إننا نعتبر أن القيم مندرجة ضمن المفاهيم الدينية المشتركة، وذلك ليس باعتبارها قيمة مطلقة، وإنما بالنظر إلى المفهوم الذي تأخذه في النسق الديني، وسيكون من باب الاقتضاء الإجرائي أن ندمج بين المفاهيم والقيم، من باب أن الحاكم هو المفهوم، حتى بالنسبة للقيمة العليا الخالدة التي يسعى الدين إلى إضفاء طابع الثبات والخلود عليها.
في مثال الطلاق على سبيل المثال، يقدم الفقه الإسلامي تفاصيل أكثر حول   مشروعية الطلاق، وأحكامه، وأنواعه بحسب موافقته للشرع أو بحسب الرجعة، ومتى يقع ومتى لا يقع بحسب أحوال المطلق غضبانا كان أم سكرانا أم مكرها أم غير ذلك،  ويكيف الشارع  أحكام الطلاق الخمسة بحسب  الأحوال، فيتعرف المتعلم على أن الطلاق قد يكون واجبا أو قد يكون حراما،  لكن في المحصلة، ما يستقر كقناعة عامة مشتركة لدى الجمهور أن الطلاق شرع كحل لإنهاء  الزواج الذي لم يحقق مقاصده، وأنه بنص القرآن ليس نهاية الدنيا، وأن بوسع الله  أن يغني  الطليقين من فضله بما يجعلهما يستأنفان حياتهما من جديد بعيدا عن أجواء النزاع والتوتر، وقد يكتب لهما حياة زوجية جديدة، تتمتع  بالاستقرار الذي لم يتوفقا في تحقيقه.

قد يعترض معترض، ويزعم أن المفهوم الأخير المتعلق بقدرة الله على إغناء الطليقين من فضله، هو الآخر يشكل جزءا من القناعات الدينية المشتركة، والحال، أن هذا صحيح من جهة الرؤية العقدية، التي تنسب السيادة لله على كونه والغلبة له على عباده، لكن بالقياس إلى التحولات المجتمعية، فقد بقيت هذه القناعة، لكنها تراجعت بوصفها قناعة دينية مشتركة، بسبب من التحولات السوسيولوجية، ومن تراجع نسب الزواج، وقلة الطلب الديني على الزواج من المطلقات في المجتمع العربي الإسلامي.

هذا الخلاف في التقدير بين ما يكتسب طابع المفهوم العام المشترك من الدين، وما لا يحمل هذا التوصيف، أو ما تتراجع مرتبته عنه بعدما كان مشمولا به، يفتح النقاش حول ضوابط الحكم على هذا المفهوم بهذا التوصيف (المفهوم الديني المشترك)؟ وكيف يتم استثناء مفاهيم أخرى من شمول هذا التوصيف لها؟

الضابط الوحيد الذي نميل إلى اعتباره عدم حصول الخلاف في المفهوم المشترك، فكل ما حصل الخلاف مجتمعيا حوله، لم يصلح أن يعتبر مشتركا، وكلما حصل عليه الاتفاق، دون تسجيل أدنى خلاف حوله، لم يكن بهذا التوصيف، وكلما كان الاتفاق حوله، ثم برز الخلاف حوله بعد تجدد الأحوال المجتمعية، تراجعت مرتبته، وإن كان يؤثر بنحو من الأنحاء في الوعي الديني، لكن، ليس بدرجة تأثير المفاهيم الدينية المشتركة.

تشكيل الوعي الديني.. بين المفاهيم والقيم

هذا الضابط في واقع الأمر، وإن كان يحسم الجدل، ويضفي الطابع العلمي على التناول، فإنه لا يحسم النقاش حول العلاقة بين المفاهيم والقيم، وذلك لاعتبار يخص طبيعة القيم ومفهومها، إذ جرى تواطؤ داخل المشتغلين بالفكر الإسلامي، على أن المشكلة أبدا لا توجد في القيم الدينية، فهي خالدة، وتتسم بالثبات، وإنما المشكلة تكمن في المفاهيم والتصورات. ومن ثمة، ينشأ الإشكال بفعل دخول القيم دائرة المشترك الديني الذي لا يطاله الخلاف، في حين تخرج المفاهيم عن هذا التوصيف إذا تم تسجيل الخلاف بينها.

والحقيقة أن التواطؤ العلمي الذي درج عليه هؤلاء يتناول القيمة من حيث الحاجة إليها (مطلق القيمة)، لا من حيث القراءة التي تقدم لها (المفهوم)، إذ لا خلاف البتة حول مركزية العدل والإحسان والشورى والتسامح، لكن الاختلاف يقع في المفهوم الذي يقدم لهذه القيم، وهو ما يشكل منطقة جدل ثقافي حضاري بين المعتقدات المختلفة، فالتسامح الذي قد يتحدد مفهومه داخل البناء الإسلامي، ليس هو نفسه الذي تحدد مفهومه داخل المجال الثقافي التداولي الحداثي، والحب نفسه، تختلف مفاهيمه حسب السياقات الثقافية المختلفة. مما يجعل قضية القيم غير ذات اعتبار دون المفهوم الذي تحمله.

وبناء على هذا التحديد، فإننا نعتبر أن القيم مندرجة ضمن المفاهيم الدينية المشتركة، وذلك ليس باعتبارها قيمة مطلقة، وإنما بالنظر إلى المفهوم الذي تأخذه في النسق الديني، وسيكون من باب الاقتضاء الإجرائي أن ندمج بين المفاهيم والقيم، من باب أن الحاكم هو المفهوم، حتى بالنسبة للقيمة العليا الخالدة التي يسعى الدين إلى إضفاء طابع الثبات والخلود عليها.
التعليقات (0)

خبر عاجل