قضايا وآراء

ماذا بعد موجة الاعترافات الدولية بفلسطين؟ قراءة في التحولات الأخيرة

ماهر حسن شاويش
"خلال الأشهر الماضية، شهدنا موجة لافتة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية"- جيتي
"خلال الأشهر الماضية، شهدنا موجة لافتة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية"- جيتي
في ظل الحرب المستمرة على غزة، وتزايد الضغوط الشعبية في العواصم الغربية، عاد ملف الدولة الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي من خلال مؤتمر نيويورك حول حلّ الدولتين، ومن خلال سلسلة الاعترافات المتتالية التي صدرت عن دول أوروبية وغربية. هذا الحراك، وإن بدا للبعض خطوة رمزية أو متأخرة، إلا أنه يفتح نقاشا جادا حول موقع القضية الفلسطينية اليوم في النظام الدولي، وحول آفاق التحول العملي الممكن انطلاقا من هذه الاعترافات.

مؤتمر حلّ الدولتين: العودة إلى المربع الأول

مؤتمر نيويورك الأخير لم يقدّم جديدا نوعيا، فقد كرّر الدعوة إلى حلّ الدولتين باعتباره الإطار الأمثل لإنهاء الصراع، وأعاد التأكيد على مبادئ عامة: وقف إطلاق النار، واستئناف المفاوضات، ووقف الاستيطان. غير أن البيان الختامي ظلّ بعيدا عن آليات التنفيذ والضمانات، وهو ما جعل الاستجابة الفلسطينية والعربية متحفظة في مجملها.

حدود هذه الاعترافات واضحة: فهي لا توقف الحرب ولا تفك الحصار ولا تُنهي الاحتلال، ولا تُجبر إسرائيل على الانسحاب أو تفكيك المستوطنات

جدوى الاعترافات الدولية: مكاسب وحدود

خلال الأشهر الماضية، شهدنا موجة لافتة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية. هذه الاعترافات يمكن قراءتها على أكثر من مستوى:

1. رمزية وسياسية: تثبّت فلسطين كدولة تحت الاحتلال، وتنقلها من خانة "النزاع" إلى خانة "القضية الوطنية لشعب محتل".

2. قانونية: تعزز الموقف الفلسطيني أمام الأمم المتحدة والمحاكم الدولية.

3. ضغط على إسرائيل: كل اعتراف جديد يضيق الخناق على تل أبيب، ويضعف سرديتها بأنها الطرف الوحيد "المعترف به" دوليا.

4. تراكمية: الاعترافات ليست حدثا منفصلا، بل تراكم يبني قوة دفع تدريجية، قد يصل في لحظة ما إلى "كتلة حرجة" تُغيّر قواعد اللعبة.

لكن حدود هذه الاعترافات واضحة: فهي لا توقف الحرب ولا تفك الحصار ولا تُنهي الاحتلال، ولا تُجبر إسرائيل على الانسحاب أو تفكيك المستوطنات.

قراءة مختلفة: الاعترافات ليست مجرد خطوة ناقصة

غالبية التحليلات تعاملت مع الاعترافات بوصفها "خطوة مهمة لكنها ناقصة". هذه قراءة صحيحة، لكنها ليست كافية لفهم العمق الحقيقي للتحوّل:

1. انكشاف إسرائيل: كل اعتراف بفلسطين يقابله نزع تدريجي من شرعية إسرائيل، وتحويل صورتها إلى دولة أبارتايد استيطانية.

2. أزمة الغرب الأخلاقية: الاعترافات ليست هدية للفلسطينيين بقدر ما هي محاولة لترميم صورة الحكومات الأوروبية والغربية أمام شعوبها الغاضبة من المجازر.

3. تحول في وعي الشعوب: هذه الموجة لم تكن نتيجة مبادرات حكومية فقط، بل جاءت نتيجة ضغوط شعبية من نقابات واتحادات طلابية ومظاهرات واسعة.

الاعترافات الدولية بفلسطين ليست نهاية الطريق، لكنها بداية مرحلة جديدة. إنها مؤشر على تحوّل في الشرعية الدولية، وعلى انكشاف متزايد لإسرائيل، وعلى أن الرأي العام العالمي بات طرفا فاعلا في القضية. القيمة الحقيقية لهذه الاعترافات لن تُقاس بعددها فقط، بل بقدرة الفلسطينيين على استثمارها في مشروع وطني جامع

4. إعادة تعريف الدولة الفلسطينية: الاعترافات تطرح سؤالا جديدا: أيّ دولة نتحدث عنها في ظل الاستيطان والحصار؟ القضية لم تعد جغرافيا فحسب، بل حرية من نظام استعماري استيطاني.

إلى أين يمكن أن نصل عمليا؟

1. العضوية الكاملة في الأمم المتحدة: الاعترافات قد تمهّد الطريق لطرح ملف عضوية فلسطين مجددا، حتى لو اصطدم بفيتو أمريكي.

2. القانون الدولي: ستُستخدم الاعترافات كأدلة داعمة في القضايا المرفوعة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.

3. عزلة إسرائيل: مع الوقت، ستتشكل صورة إسرائيل كدولة منبوذة، على غرار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقا.

4. تأثير مباشر في السياسات الغربية: الضغط الشعبي الذي أنتج هذه الاعترافات سيواصل عمله، وسيدفع الحكومات لتعديل سياساتها تدريجيا.

5. ضغط على الفلسطينيين: المجتمع الدولي سيطالب الفلسطينيين بإنهاء الانقسام وتقديم شريك سياسي موحد قادر على تمثيل "الدولة المعترف بها".

بين الرمزية والفعل: الاعترافات كفرصة تاريخية للفلسطينيين

الاعترافات الدولية بفلسطين ليست نهاية الطريق، لكنها بداية مرحلة جديدة. إنها مؤشر على تحوّل في الشرعية الدولية، وعلى انكشاف متزايد لإسرائيل، وعلى أن الرأي العام العالمي بات طرفا فاعلا في القضية. القيمة الحقيقية لهذه الاعترافات لن تُقاس بعددها فقط، بل بقدرة الفلسطينيين على استثمارها في مشروع وطني جامع يوظف القانون الدولي، ويعزز الوحدة الداخلية، ويحوّل الزخم الشعبي والدولي إلى خطوات عملية على طريق الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
التعليقات (0)