قضايا وآراء

غزة في مواجهة محور الصهيو-أمريكية: إبادة تحت سمع العالم وبصره

لؤي صوالحة
"ما يجري في غزة لن ينتهي بانتهاء القصف أو الحصار؛ هذه الحرب أعادت تشكيل الوعي العالمي تجاه فلسطين، وفرضت نفسها على أجندات السياسة الدولية"- الأناضول
"ما يجري في غزة لن ينتهي بانتهاء القصف أو الحصار؛ هذه الحرب أعادت تشكيل الوعي العالمي تجاه فلسطين، وفرضت نفسها على أجندات السياسة الدولية"- الأناضول
قالها تشي جيفارا ذات يوم: "حتى خصومك انطقيهم بدقة، إياك أن تعطي الحثالة شرف أن يكونوا نِدّا لك". هذه العبارة الثورية لم تكن مجرد مقولة عابرة في زمن الثورة الكوبية، بل كانت تعبيرا مكثفا عن فلسفة الصراع بين من يمتلك المبادئ ومن لا يمتلك سوى القوة العمياء. اليوم، وفي قلب المأساة الممتدة على أرض غزة، تعود كلمات جيفارا لتضيء المشهد من جديد: خصوم غزة ليسوا نِدّا لها، ولا يستحقون حتى شرف الندية؛ إنهم منظومة استعمارية متهالكة أخلاقيا، تترنح تحت وطأة أكاذيبها، وتستقوي بقوة السلاح وسط صمتٍ دولي مريب.

إبادة جماعية موثقة.. والعالم يتفرّج

منذ عامين، يخضع قطاع غزة لحرب إبادة جماعية بكل المقاييس القانونية والسياسية والإنسانية. مئات آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ أُلقيت على منطقة لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومترا مربعا، يعيش فيها أكثر من 2.3 مليون إنسان. مشاهد الدمار الشامل، والبيوت التي سويت بالأرض، والمستشفيات والمدارس التي تحولت إلى ركام، ليست مشاهد حرب تقليدية، بل مشاهد لسياسة مُمنهجة تستهدف تدمير الحياة ذاتها، وإلغاء وجود جماعي لشعب بأكمله.

ما يجري في غزة ليس مجرد حرب عابرة، بل هو حلقة مركزية في مشروع استعماري صهيو-أمريكي يهدف إلى إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط وفق رؤية الهيمنة الكاملة

ما يميز هذه الإبادة عن غيرها أنها تجري تحت أنظار العالم بأسره، لحظة بلحظة، بالصوت والصورة، في زمن الأقمار الصناعية والهواتف الذكية والشبكات العابرة للحدود. ومع ذلك، فإن المجتمع الدولي، بمؤسساته ومنظماته ودوله الكبرى، لم يحرك ساكنا لوقف هذه الجريمة المستمرة، بل شارك كثيرون في تغذيتها ودعمها سياسيا وعسكريا.

مجلس الأمن الدولي أصدر قرارات تدعو إلى وقف إطلاق النار ورفع الحصار، ومحكمة العدل الدولية اعتبرت أن هناك مؤشرات معقولة على ارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. ومع ذلك، واصلت إسرائيل حربها بكل ثقة، لأنها تعرف أن المظلة الأمريكية ستحميها من أي مساءلة، وأن صمت كثير من الأنظمة سيمنحها الوقت لتُمعن في القتل والتدمير.

أسطول الصمود.. أكثر من 40 سفينة تحمل ضمير العالم

في مقابل هذا التواطؤ الدولي، برزت مبادرات إنسانية عالمية تعبّر عن الضمير الحي الذي لا يزال نابضا في شعوب العالم. من بين هذه المبادرات، كان أسطول الصمود الذي حاول اختراق الحصار البحري المفروض على غزة منذ أكثر من 17 عاما.

هذا الأسطول، المكوَّن من 42 سفينة، حمل على متنه أكثر من 400 ناشط ومتضامن من مختلف الجنسيات، جاؤوا لا يحملون سلاحا ولا أجندات سياسية، بل غذاء ودواء ورسائل تضامن إنساني. هؤلاء المتضامنون أرادوا أن يذكّروا العالم بأن الحصار جريمة، وأن الصمت خيانة، وأن الإنسانية لا ينبغي أن تُقاس بموازين القوة بل بموازين الضمير.

لكن الرد الإسرائيلي كان نموذجا مكثفا للعقلية الاستعمارية: اعتراض عسكري في عرض البحر، ومصادرة السفن، واعتقال المتضامنين، ومصادرة المساعدات. لم تتحرك أي قوة بحرية دولية لحماية حرية الملاحة، ولم يُفتح تحقيق دولي واحد في هذا الانتهاك السافر. في المقابل، استمرت السفن الأمريكية والأوروبية بالتدفق إلى الموانئ الإسرائيلية محملة بأحدث الأسلحة، في مشهد يفضح ازدواجية المعايير بأوضح صورها: من يريد أن يطعم طفلا في غزة يُمنع ويُعتقل، ومن يريد أن يقتل طفلا يُفتح له البحر والسماء.

محور صهيو-أمريكي.. يفرض منطقه بالقوة

ما يجري في غزة ليس مجرد حرب عابرة، بل هو حلقة مركزية في مشروع استعماري صهيو-أمريكي يهدف إلى إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط وفق رؤية الهيمنة الكاملة.

الولايات المتحدة، بوصفها الراعي الأول للمشروع الصهيوني، لا تقدم لإسرائيل الدعم العسكري غير المحدود فحسب، بل توفر لها الغطاء السياسي في كل المحافل الدولية. فهي التي تعرقل كل قرار في مجلس الأمن يمكن أن يحدّ من الإبادة، وهي التي تبرر الجرائم الإسرائيلية بلغة "الدفاع عن النفس"، وهي التي تبتز الدول الأخرى لجرّها إلى مربع الصمت أو الدعم.

من خلف واشنطن تقف عواصم أوروبية تتحدث عن حقوق الإنسان نهارا، وتوقع صفقات السلاح مع إسرائيل ليلا. هذه العواصم التي أطلقت نظريات القانون الدولي وحقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية، تقف اليوم عارية أمام اختبار غزة، لتكشف أن كل القيم التي بشّرت بها لم تكن سوى أدوات انتقائية تُستخدم حيث تشاء المصالح، وتُسحب حيث توجد مقاومة حقيقية.

البعد القانوني.. جريمة إبادة مكتملة الأركان

من زاوية القانون الدولي، فإن ما ترتكبه إسرائيل في غزة يرقى إلى جريمة إبادة جماعية وفقا لاتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها لعام 1948. جميع أركان الجريمة متوفرة:

- النية المبيتة للتدمير: تصريحات قادة الاحتلال التي دعت علنا إلى "محو غزة من الوجود" أو "ترحيل سكانها إلى سيناء" تمثل دليلا واضحا على نية الإبادة.

- الأفعال المادية: القتل الجماعي، والتدمير واسع النطاق للمنازل والبنية التحتية المدنية، واستخدام التجويع كسلاح، ومنع المساعدات الإنسانية.

- الاستهداف الممنهج للمدنيين: بما في ذلك النساء والأطفال والمرضى، واستهداف المدارس والمستشفيات ومخيمات اللاجئين.

ومع ذلك، فإن محكمة الجنايات الدولية تتحرك ببطء شديد، بينما يظل مجلس الأمن مشلولا بفعل الفيتو الأمريكي. هذه الوضعية كشفت هشاشة النظام الدولي القائم على "القانون"، وأظهرت أن القوة الفعلية لا تزال في يد من يملك أدوات الإكراه لا من يملك الحق.

التحركات القانونية والدبلوماسية.. بين الجدية والعرقلة
تراكم الملفات القانونية ضد إسرائيل يراكم بدوره ضغطا سياسيا وأخلاقيا متزايدا. فالعالم لم يعد يجهل ما يجري؛ كل شيء موثق بالأدلة والصور والأقمار الصناعية والشهادات الحية

رغم بطء العدالة الدولية، فإن التحركات القانونية لم تتوقف. جنوب أفريقيا تقدمت بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، اتهمتها فيها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وقد قبلت المحكمة النظر في القضية وأصدرت قرارات مبدئية تطالب إسرائيل بوقف الأعمال التي يمكن أن تشكل إبادة. هذه الخطوة فتحت الباب أمام دول أخرى لدعم المسار القانوني، وبدأت منظمات حقوقية عالمية توثيقا منهجيا للجرائم تمهيدا للمساءلة.

لكن هذه التحركات تواجه عرقلة منظمة من الولايات المتحدة وحلفائها. فواشنطن تمارس ضغوطا على الدول لثنيها عن دعم المسار القانوني، وتلوّح بالعقوبات لمن يتجرأ على معارضة إسرائيل في المحافل الدولية. كما تحاول تفريغ القرارات الأممية من مضمونها، عبر فرض تفسيرات منحرفة أو تسويف الإجراءات إلى ما لا نهاية.

ورغم هذه العراقيل، فإن تراكم الملفات القانونية ضد إسرائيل يراكم بدوره ضغطا سياسيا وأخلاقيا متزايدا. فالعالم لم يعد يجهل ما يجري؛ كل شيء موثق بالأدلة والصور والأقمار الصناعية والشهادات الحية.

الانعكاسات الإقليمية.. حدود النار والاختبار السياسي

حرب الإبادة في غزة لم تبقَ داخل حدود القطاع، فتداعياتها الإقليمية أصبحت عميقة.

- مصر، التي تشارك غزة حدودا طويلة، تواجه ضغوطا أمريكية-إسرائيلية لفتح ممرات تهجير قسرية إلى سيناء، وهو ما ترفضه رسميا، لكنه يضعها أمام اختبار سيادي معقد.

- الأردن، الذي يحمل عبء القضية الفلسطينية منذ عقود، يشهد توترا شعبيا متزايدا، وضغوطا سياسية بين الرغبة في عدم الانخراط العسكري وبين الالتزامات الإقليمية.

- لبنان يعيش على وقع اشتباكات متقطعة على حدوده الجنوبية، واحتمالات توسع الحرب قائمة دائما.

في العمق السياسي، كشفت حرب غزة هشاشة كثير من التحالفات الإقليمية التي بُنيت في العقد الأخير تحت شعارات "الاستقرار" و"التطبيع". بعض الدول التي هرولت نحو التطبيع وجدت نفسها أمام غضب شعوبها وفضيحة أخلاقية أمام صمتها، ما أعاد النقاش إلى مربعه الأول: لا استقرار حقيقيا في المنطقة دون حل عادل للقضية الفلسطينية.

الدور الشعبي العالمي.. الضمير الذي لم يمت

رغم تواطؤ الحكومات، فقد شهد العالم حراكا شعبيا غير مسبوق تضامنا مع غزة؛ ملايين المتظاهرين خرجوا في شوارع العواصم الأوروبية والأمريكية واللاتينية والأفريقية، مطالبين بوقف الإبادة ورفع الحصار. الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا تحولت إلى ساحات اعتصام ضخمة، رُفعت فيها أعلام فلسطين وارتفعت شعارات المقاطعة، في مشهد أعاد إلى الأذهان حركات مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

أسطول الحرية كان جزءا من هذا الحراك، رمزا لتحرك مدني لا يخضع لحسابات الحكومات. كما انتشرت الحملات الإلكترونية التي كسرت احتكار الإعلام الغربي للرواية، وفضحت الجرائم بالصوت والصورة.

هذه التحركات الشعبية لا تملك دبابات ولا طائرات، لكنها تملك سلاحا أخطر: الوعي العالمي. فالمعارك الكبرى في التاريخ لم تُحسم فقط في الميدان العسكري، بل في ميدان الرأي العام والشرعية الأخلاقية، وغزة اليوم تنتصر في هذا الميدان انتصارا واضحا.

قراءة مستقبلية.. غزة تعيد رسم التاريخ

ما يجري في غزة لن ينتهي بانتهاء القصف أو الحصار؛ هذه الحرب أعادت تشكيل الوعي العالمي تجاه فلسطين، وفرضت نفسها على أجندات السياسة الدولية.

في السيناريوهات المستقبلية، هناك مسارات مفتوحة:
في جميع هذه السيناريوهات، تبقى غزة نقطة تحول تاريخي، ليس فقط للقضية الفلسطينية، بل للعالم بأسره. فهي المعركة التي أسقطت أسطورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وكشفت أن ما يُسمى "النظام الدولي" ليس سوى نظام القوة المغلّفة بالكلمات

- مسار المقاومة والصمود: إذا واصلت غزة صمودها، فستكون قد كرست واقعا جديدا يفرض إعادة النظر في معادلات القوة الإقليمية.

- مسار التدويل القانوني والسياسي: مع تراكم الملفات، ستزداد عزلة إسرائيل القانونية والسياسية على المدى المتوسط، بما يشبه ما حدث لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

- مسار التحولات الإقليمية: كثير من الأنظمة ستجد نفسها مضطرة إلى مراجعة علاقاتها مع إسرائيل تحت ضغط شعوبها أو نتيجة تغيّر موازين القوى.

في جميع هذه السيناريوهات، تبقى غزة نقطة تحول تاريخي، ليس فقط للقضية الفلسطينية، بل للعالم بأسره. فهي المعركة التي أسقطت أسطورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وكشفت أن ما يُسمى "النظام الدولي" ليس سوى نظام القوة المغلّفة بالكلمات.

خاتمة.. كلمة في وجه التاريخ

لقد أثبتت غزة أن القوة ليست في امتلاك أحدث الأسلحة، بل في امتلاك الإرادة، وأثبتت أن الشعوب قادرة على الصمود أمام أعتى التحالفات الاستعمارية إذا امتلكت وعيا وعزيمة.

خصوم غزة اليوم ليسوا نِدّا لها، كما قال جيفارا؛ إنهم حثالة سياسية وأخلاقية لا تستحق الندية، مهما امتلكت من ترسانات ومؤتمرات.

غزة لا تدافع فقط عن نفسها، بل تدافع عن المعنى الإنساني ذاته، عن كرامة البشر وحقهم في الحياة الحرة الكريمة.

وفي النهاية، ستُكتب هذه المرحلة في كتب التاريخ، لا كفصل من فصول الهزيمة، بل كصفحة من صفحات الصمود الإنساني النادر، حيث واجهت مدينةٌ محاصرة منظومةً استعمارية عالمية، ورفعت رأس الإنسانية عاليا، في زمنٍ انحنى فيه كثيرون.
التعليقات (0)

خبر عاجل