في الدوحة،
لم تكن السماء مجرد خلفية للهدوء اليومي، بل كانت مسرحا لمحاولة اغتيال إرهابية
نفذها الكيان
الإسرائيلي ضد وفد
المقاومة الفلسطينية في قلب العاصمة
القطرية.
الضربة لم تكن مجرد هجوم عابر، بل خطوة محسوبة على مدار أكثر من عقد من الزمن، إذ
أظهرت التقارير الإسرائيلية أن المبنى المستهدف كان تحت المراقبة منذ عام 2014، أي
أكثر من عشر سنوات من جمع المعلومات الاستخباراتية، بهدف تصفية قادة حركة حماس
خلال اجتماعهم في دولة ذات سيادة، في محاولة لإضعاف المقاومة وفرض شروط سياسية على
الوسطاء والمفاوضين.
لكن فشل
العملية كشف حدود القوة الإسرائيلية، وأظهر أن الدقة الاستخباراتية وحدها لا تكفي
لتحقيق أهداف سياسية عسكرية، وأن إرادة الشعوب الحرة لا تُقهر بالقوة وحدها.
فشل
استراتيجي لإسرائيل: ضربة لا تصنع النصر
وفقا
للتقارير الإسرائيلية، العملية التي جرت خلال اجتماع قيادات حماس في الدوحة، كانت
محاطة بالإجراءات الاستخباراتية الأكثر دقة، واستخدمت ذخائر محددة لتفادي قتل
المدنيين أو الأجانب، على عكس العمليات السابقة في غزة أو إيران. ومع ذلك، فشل
الاحتلال في تحقيق هدفه الأساسي: اغتيال القيادات.
هذا الفشل
أثار موجة من الانتقادات الحادة داخل المؤسسة السياسية الإسرائيلية، مع تحميل رئيس
الوزراء بنيامين نتنياهو المسؤولية المباشرة عن التهور وغياب التنسيق الكافي مع
الموساد والشاباك. فالتحليل العسكري والسياسي الإسرائيلي أظهر تشاؤما غير مسبوق،
إذ بدا واضحا أن استهداف القادة في دولة مستقلة يختلف جذريا عن أي عملية نفذت في
غزة، فالمخاطر الدبلوماسية والقانونية تتضاعف، والنتائج لا يمكن ضمانها مهما بلغت
دقة التخطيط.
وفشل
العملية يعيد إلى الواجهة حقيقة أساسية: إسرائيل لا تستطيع إرغام المقاومة على
الاستسلام، وأن القوة العسكرية وحدها لا تصنع التوازن السياسي أو النصر الدائم.
القانون
الدولي: انتهاك صارخ للمعايير والحقوق
من
الناحية القانونية،
العدوان الإسرائيلي على الدوحة يمثل خرقا صارخا للقوانين
الدولية. الوفد المستهدف كان في وضعية مفاوض رسمي يتمتع بحصانة سياسية ودبلوماسية
ضمن الأعراف الدولية، واستهداف مفاوضين في دولة مستقلة يشكل انتهاكا مباشرا لميثاق
الأمم المتحدة، ولقواعد حماية المدنيين والمفاوضين، ويشكل تهديدا لكل عملية تفاوض
مستقبلية.
محاولة
الاحتلال تبرير العملية تحت شعارات "الدفاع عن النفس" و"محاربة
الإرهاب" ليست سوى وهْم لا يقبله القانون الدولي. المقاومة الفلسطينية، وفق
قرارات الأمم المتحدة، لها الحق المشروع في الدفاع عن شعبها، بما في ذلك كل
الوسائل المشروعة ضد الاحتلال. استهداف الوفد المفاوض في الدوحة ليس مجرد خرق، بل
إعلان عالمي بأن إسرائيل تتجاوز القوانين وتفرض إرادتها بالقوة.
قطر:
السيادة والدور الاستراتيجي
لم تكن
قطر مجرد مسرح للعدوان، بل هدفا أساسيا؛ استهدافها جاء ردا على دورها في الوساطة
الإقليمية والدولية، وفي دعمها لفلسطين وموقفها المستقل تجاه الاحتلال. والضربة
الإسرائيلية لم تكن مجرد تهديد للأفراد، بل محاولة للضغط على دولة ذات وزن دولي.
لكن قطر
لم تتراجع، سيادتها لم تُنكسر، واستمرارها في لعب دور الوسيط أعاد التأكيد على
قدرتها على حماية مصالحها، وأعاد إظهار وزنها السياسي والدبلوماسي. العدوان فتح
أمامها فرصة لتوحيد الموقف العربي والإسلامي، وفرض خطوات عملية للرد على انتهاك
سيادتها، تشمل الاستدعاء الفوري للسفراء، تجميد الاتفاقيات الاقتصادية، ورفع دعاوى
أمام محكمة العدل الدولية.
المقاومة
الفلسطينية: صمود وإرادة لا تنكسر
الفشل
الإسرائيلي أعاد التأكيد على مرونة المقاومة الفلسطينية وقدرتها على الصمود، فالقيادات
المستهدفة نجت، وحافظت على حضورها في المشهد السياسي. والعملية عززت مكانة حماس
داخليا وعربيا ودوليا، وأكدت أن محاولات الإرهاب والاغتيال لا تؤدي إلا إلى زيادة
تماسكها وصلابتها.
الرسالة
واضحة للشارع الفلسطيني والعربي: إسرائيل لا تريد تفاوضا حقيقيا، بل تسعى للإبادة
السياسية والعسكرية. الإدراك الواضح لهذا الواقع سيؤثر على أي جولة تفاوض
مستقبلية، ويضع الوسطاء تحت ضغط أخلاقي وسياسي أكبر من أي وقت مضى.
العالم
العربي والإسلامي: لحظة اختبار تاريخية
العدوان
الإسرائيلي على الدوحة وضع الدول العربية والإسلامية أمام اختبار حقيقي، لم يعد
هناك مجال للبيانات الشكلية، فالضربة استهدفت عاصمة عربية ذات سيادة، وقتلت
مدنيين، وحاولت اغتيال وفد تفاوضي رسمي.
المطلوب
اليوم تحرك جماعي وموحد:
1- تحرك
دبلوماسي عاجل: عقد قمة عربية إسلامية طارئة لتوحيد الموقف.
2- خطوات
اقتصادية: تجميد اتفاقيات التعاون التجاري مع إسرائيل، ووقف الاستثمارات المشتركة.
3- مقاطعة
سياسية: خفض التمثيل الدبلوماسي إلى أدنى حد.
4- تحرك
قانوني: رفع دعاوى مشتركة أمام محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.
5- تفعيل
الضغط الشعبي: حملات مقاطعة شاملة للمنتجات والخدمات الإسرائيلية.
هذه
الخطوات ليست مجرد خيار، بل واجب وجودي يحمي السيادة العربية ويحول دون تكرار هذه
الانتهاكات.
إسرائيل:
فشل استراتيجي وكلفة دولية
الفشل في
اغتيال القيادات يعكس محدودية القوة الإسرائيلية على صعيد العمليات الدقيقة، وكشف
عيوبها في الحسابات الأمنية والدبلوماسية، كما أظهر للعالم الوجه الحقيقي لدولة
مارقة تتجاوز كل الأعراف الدولية، وتعتمد على القوة لفرض إرادتها.
الدبلوماسية
الدولية أمام اختبار: استمرار الحماية الأمريكية لإسرائيل يعني تعزيز ثقافة
الإفلات من العقاب، أما اتخاذ موقف صارم فقد يعيد التوازن إلى المنطقة ويحد من
طموحات الاحتلال.
الرسائل
الإسرائيلية: القوة المجهضة
العملية
حملت رسائل داخلية وإقليمية ودولية:
داخليا:
استعراض القوة أمام الجمهور الإسرائيلي وتعويض الفشل الأمني والسياسي.
إقليميا:
تحذير للوسطاء والدول العربية من التدخل أو دعم المقاومة.
دوليا:
تثبيت دور إسرائيل كفاعل أساسي في المنطقة قادر على فرض إرادته على السياسات
الإقليمية.
لكن الفشل
العسكري والأمني أعاد كتابة القواعد: من يحاول فرض إرادته بالقوة، سيواجه صمودا
ومقاومة.
وفي
الختام: درس التاريخ والردع العربي
العدوان
الإسرائيلي على الدوحة لم يكن مجرد حدث عابر، بل صرخة صارخة في وجه كل الأعراف
الدولية، وتجربة مفصلية في تاريخ الصراع العربي-الفلسطيني. هذا الهجوم لم يقتصر
على محاولة اغتيال قادة المقاومة، بل استهدف سيادة دولة عربية، ووضع العالم أمام
اختبار حقيقي لقيم العدالة والقانون الدولي.
لكن
الحقيقة المؤكدة أن القوة الغاشمة لا تستطيع أن تكسر إرادة الشعوب الحرة. المقاومة
الفلسطينية نجت، وأكدت أن الحق لا يموت، وأن السيادة القطرية لم تُهز. هذا الدرس
واضح: من يحاول فرض إرادته بالقوة، سيقابل صمودا ومقاومة، ومن ينتهك القوانين
الدولية، سيواجه عزلة وإدانة لا يمكن تجاوزها.
اليوم،
أمام العرب والمسلمين فرصة تاريخية: إعادة رسم حدود القوة، وإثبات أن السيادة ليست
مجرد ورقة، بل هي حق لا يمكن التنازل عنه. المطلوب موقف عربي موحد، يحمي المصالح
القومية، ويعيد الثقة بالعدالة الدولية.
إن
التاريخ سيشهد على من وقف إلى جانب الحق، ومن اعتمد على القوة الغاشمة والطغيان.
والشعوب العربية والإسلامية أمام مسؤولية أخلاقية ووطنية للتأكيد أن السيادة
والكرامة لا تُقهر، وأن الحق يظل دائما فوق الغطرسة والطغيان، مهما علت أصوات
السلاح أو دقت طبول الحرب.