في 1 /4/2024، وفي تغريدة له على موقع إكس،
قال تريتا بارسي، نائب الرئيس التنفيذ لمعهد كوينسي: "إسرائيل منخرطة في جهد
متعمد ومنهجي لتدمير القوانين والأعراف القائمة لخلق وضع جديد تكون فيه - مثل
الولايات المتحدة - لا يمكن المساس بها فوق هذه القوانين والمعايير".
والاستراتيجية التي اتبعتها إسرائيل في ذلك هي استراتيجية "التمويه
الإنساني"، لإعادة صياغة القواعد الأساسية للقانون الإنساني الدولي لتلائم
وتُشرّع ممارسات الإبادة الجماعية للسكان
الفلسطينيين. فجردتهم من إنسانيتهم،
وكثفت نزع الصفة المدنية عنهم، واستخدمت مصطلحات القانون الإنساني الدولي لتبرير
استخدامها المنهجي للعنف المميت ضدهم كمجموعة، والتدمير الشامل للبنى التحتية
الأساسية للحياة والتي لا غنى عنها لبقائهم.
وفي هذا المقال، نقرأ هذا التمويه الإنساني
والتفسير الإسرائيلي للقوانين والمواثيق الدولية لتبرير جرائمها، وذلك من خلال:
1 ـ بنينا شارفيت باروخ،
الحرب مع حماس:
أساسيات قانونية، معهد
دراسات الأمن القومي، جامعة تل أبيب، 16/10/2023.
2 ـ آسا كاشر، قوانين الحرب الإسرائيلية:
كيف تُشكّل عقيدة الجيش الإسرائيلي الحملة ضد حماس في غزة، فورين آفيرز،
27/10/2023.
ترتكب إسرائيل هذه الجرائم في سياق نظام مؤسسي من القمع والهيمنة المنهجية ينزل الفلسطينيون إلى وضع أدنى، ويجردون من إنسانيتهم لتبرير الدونية والحرمان من الحقوق الأساسية. وبالتالي فإن التفوق اليهودي هو أساس ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة وعنصر حاسم لفهمها.
3 ـ فرانشيسكا ألبانيز، تشريح الإبادة
الجماعية، مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 25/3/2024.
4 ـ نمر سلطاني، عتبة متجاوزة: نية الإبادة
الجماعية وواجب منعها في فلسطين، مجلة أبحاث الإبادة الجماعية، 9/5/2024.
5 ـ لويجي دانييل ونيكولا بيروجيني
وفرانشيسكا ألبانيز، التمويه الإنساني: إسرائيل تُعيد صياغة قوانين الحرب لإضفاء
الشرعية على الإبادة الجماعية في غزة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 26/9/2024.
6 ـ غريغوري ستانتون وفريق عمل مراقبة
الإبادة الجماعية في غزة، تكتيكات إسرائيل الاثنتي عشرة للإنكار، منظمة مراقبة
الإبادة الجماعية، 25/5/2025.
7 ـ الرابطة الدولية لعلماء الإبادة
الجماعية IAGS، قرار
الرابطة بشأن الوضع في غزة، موقع IAGS،
31/8/2025.
قانون الإبادة المسلحة الفلسطينية
لأول مرة منذ صدور اتفاقية الإبادة الجماعية
واتفاقيات جنيف الأربع، فإن إبادة جماعية ذات سمات استعمارية استيطانية مميزة في
غزة قدّمها مرتكبوها على أنها ملتزمة بالقانون الدولي الإنساني. فقد فككت إسرائيل
الكلمات والمفاهيم الواردة في قواعد قانون النزاعات المسلحة من سياقها المعياري،
وحوّلتها إلى تراخيص للقتل الجماعي والتدمير العشوائي. وأُعيد تجميع هذه المفاهيم
المفككة في "قانون الإبادة الجماعية المسلحة"، المُصمَّم خصيصًا للسكان
الفلسطينيين المُصنفين على أساس عرقي، مع تصوير تدميرهم المادي كليًا أو جزئيًا
على أنه وسيلة "إضافية" و"مشروعة" و"ضرورية" لتحقيق
أهداف الحرب المُعلنة. وبدلا من التوقف عن جرائمها الإبادية، فإنها تتهم حماس
بارتكاب أعمال مروعة ترقى إلى جريمة إبادة جماعية!!
حرب للدفاع عن النفس أم حرب للإبادة
الجماعية؟
كان الخبيران الإسرائيليان باروخ وكاشر من
بين واضعي المدونة الأخلاقية للجيش الإسرائيلي، الجيش الأكثر أخلاقية في العالم!!
ويوضح مقال كل منهما الأسس القانونية والأخلاقية لسلوك الجيش الإسرائيلي، ومعنى
الحرب العادلة لديه، فقالا: لدى إسرائيل إطار قانوني وأخلاقي يحكم سلوكها في
الحرب، ويلتزم بحماية كرامة الإنسان، واحترام قوانين الحرب الدولية، كضرورة معاملة
المقاتلين الأعداء والأسرى معاملة إنسانية وفقًا لاتفاقيات جنيف!! وهذا لا يتنافى
مع التزامها بمبدأ الدفاع عن النفس إذا ما تعرضت لهجوم مسلح، وحمايتها من الهجمات
المستقبلية المحتملة، حتى لو لم تكن متوقعة قريبًا.
وبعد هجوم حماس، أصدر مجلس وزراء الحرب
الإسرائيلي تعليماته للجيش بتدمير القدرات العسكرية والحكومية لحماس في غزة.
وإسرائيل في ذلك:
1 ـ تمارس الدفاع عن النفس بمعناه الأوسع،
الذي يعني أن منشآت حماس، التي يُفترض أنها تخدم وظائف حكومية أخرى في غزة، توفر
البنية التحتية للتخطيط لهجمات مستقبلية.
2 ـ أي هجوم إسرائيلي على هدف عسكري لحماس
غالبًا ما يُخاطر بالتسبب في أضرار جانبية، حتى مع اتخاذ احتياطات واسعة النطاق.
3 ـ يشمل تعريف "الأهداف
العسكرية" الأعيان المدنية التي تُسهم بطبيعتها أو غرضها أو موقعها أو
استخدامها إسهامًا فعالًا في العمل العسكري، والتي يُحقق تدميرها ميزة عسكرية
أكيدة.
4 ـ كما هو مُفصّل في عقيدة الحرب العادلة:
يمكن تبرير الفعل المعني إذا كانت قيمة الميزة العسكرية المُكتسبة منه أكبر من
تكلفة الأضرار الجانبية المتوقعة من جرائه. وعليه، يُمكن تبرير هذا الفعل المعني.
5 ـ لا يبني الجيش قراره بشأن شرعية عملٍ
معين على اعتبارات التناسب فقط. وعليه، حتى لو تضرر المدنيون، فهذا لا يُعد ضررًا
عرضيًا مفرطًا. وبالتالي، لن تكون الهجمات غير متناسبة أو غير قانونية.
6 ـ وفقًا لقوانين الحرب، هناك التزام
باتخاذ الاحتياطات الممكنة لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين عند مهاجمة أهداف
عسكرية. ومع ذلك، لا يوجد التزام قانوني بتحذير أي فرد قبل الهجوم.
7 ـ يُعدّ توجيه تحذير عام للمدنيين بمغادرة
المناطق التي يُخطط الجيش الإسرائيلي للهجوم عليها إجراءً احترازيًا كافيًا، ولا
يعد نقلًا قسريًا للمدنيين أو تطهيرًا عرقيًا.
اضرب عماليق.. اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً
ورضيعا
هذه المدونة الأخلاقية عبر عنها نتنياهو
وفسرها تفسيرا جليا في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي بعد ثلاثة أسابيع من بداية
الحرب، عندما ساوى بين رد إسرائيل على هجوم حماس ورد بني إسرائيل على العماليق:
1 ـ في سفر التثنية: "اذكر ما فعله بك
عماليق في طريق خروجك من مصر، كيف هاجمك في الطريق وأنت مُنهك ومُتعَب، وضرب كل من
تخلف عنك، فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك ستمحو ذكر عماليق من تحت
السماء" [تث 25: 17-19]،
2 ـ وفي سفر صموئيل الأول ١٥:٣، أوامر إبادة
جماعية صريحة: "الآن اذهب واضرب عماليق، وحرّم كل ما يملك. لا تعف عنهم؛ بل
اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقرة وغنماً، جملاً وحماراً".
وبهذا المنطق الإبادي أيضا أدلى الوزراء
وأعضاء المجلس الأمني المصغر وكبار ضباط الجيش، بتصريحات صريحة عن "نية
التدمير"، ووصفوا الفلسطينيين في غزة ككل بأنهم "حيوانات بشرية"،
وصرحوا بنية إلحاق أقصى ضرر بغزة، وتدميرها، وتحويلها إلى جحيم؛ كما أيد نتنياهو
خطة ترامب لطرد جميع الفلسطينيين قسرًا من القطاع، دون حق العودة، فيما وصفته نافي
بيلاي، رئيسة لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، بأنه يرقى إلى مستوى التطهير
العرقي.
حرب لم يرى العالم مثيلا لها
بكل المقاييس، فإن الهجوم الإسرائيلي على
غزة غير مسبوق. وبحلول نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2023، كانت وتيرة الموت في
القطاع ليس لها سوابق تذكر، فنسبة القتلى المدنيين أعلى من جميع الصراعات الأخرى
في القرن العشرين. وبعد ثلاثة أشهر من بدء الحرب، أكد مؤرخ عسكري أن غزة هي واحدة
من أكثر حملات العقاب المدنيين كثافة في التاريخ، فلقد تجاوزت قصف الحلفاء
لألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية في فترة زمنية أقصر بكثير. وقال أطباء دخلوا
غزة: إنها أسوأ من مناطق الحرب التي شهدوها، وتهدف إلى تدمير جميع مكونات الحياة.
ترتكب إسرائيل هذه الجرائم في سياق نظام
مؤسسي من القمع والهيمنة المنهجية ينزل الفلسطينيون إلى وضع أدنى، ويجردون من
إنسانيتهم لتبرير الدونية والحرمان من الحقوق الأساسية. وبالتالي فإن التفوق
اليهودي هو أساس ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة وعنصر حاسم لفهمها.
ومما يدل على نية الإبادة الجماعية أن 70%
من الوفيات هي في النساء والأطفال. واستهداف الأطفال على وجه الخصوص، سواء بالقتل
المباشر أو بسلاح الجوع والإمراض، لا يمكن تبريره بحال أنه ضرر جانبي، فوجود
الأطفال ضروري لبقاء أي مجموعة ومدى قدرتها على تجديد نفسها. لذلك، فالضرر الذي
يلحق بهم يسهم في الاستنتاج بأن الجناة كانوا يعتزمون تدمير جزء كبير من الجماعة
المحمية.
إسرائيل وتحريف القانون الإنساني الدولي
وقانون النزاعات المسلحة
استخدمت إسرائيل مفاهيم القانون الإنساني
الدولي، مثل: الدروع البشرية، والأضرار الجانبية، والمناطق الآمنة، وعمليات
الإخلاء، والحماية الطبية، بطريقة تفرغ تلك المفاهيم من محتواها المعياري، وتقوض
غرضها الوقائي للتمييز بين المدنيين والمقاتلين. وبذلك، غيّرت جذريًا التوازن
المُحقق في القانون الإنساني الدولي بين حماية المدنيين والضرورة العسكرية. وقد
أدى هذا التحريف، الذي صاغته في وثائقها الرسمية، إلى تحويل جماعة وطنية بأكملها
ومساحتها المأهولة إلى هدف قابل للتدمير، مما أودى بحياة عشرات الآلاف من المدنيين
الفلسطينيين، ودمر البنية الهيكلية للحياة في غزة، وألحق بها أضراراً لا يمكن
إصلاحها:
أ ـ الدروع البشرية ومنطق الإبادة الجماعية
وفقا للقانون الإنساني الدولي، فإن استخدام
الدروع البشرية جريمة حرب. وقد ربطت إسرائيل كل الأعيان المدنية في القطاع بحماس
لتعزيز تصوير السكان بأنهم "متواطئون" مع حماس، لذا يمكن قتلهم. وهكذا،
حوّلت إسرائيل غزة إلى "عالم بلا مدنيين"، كذريعة لتبرير قتلهم تحت ستار
من الشرعية المزعومة.
بـ ـ تحويل غزة بأكملها إلى "هدف عسكري"
ينص القانون الدولي على أن الهجمات يجب أن
"تقتصر بشكل صارم على الأهداف التي بحكم طبيعتها أو موقعها أو غرضها أو
استخدامها تُسهم مساهمة فعالة في العمل العسكري"، والتي "يجب أن يُوفر
تدميرها أو الاستيلاء عليها أو تحييدها ميزة عسكرية أكيدة". وقد أساءت
إسرائيل استخدام هذه القاعدة لـتقوم بعسكرة الأعيان المدنية، وكل ما يحيط بها،
لتبرير تدميرها العشوائي. وصنّفت القطاع بأكمله كهدف عسكري مشروع، بحيث يُمكن هدم
أحياء بأكملها بحجة أن "حماس موجودة في كل مكان في غزة". وبذلك، ألغت
إسرائيل التمييز بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية. وأصبح قتل المدنيين عمدًا
بأعداد كبيرة، استراتيجية عسكرية تُقدمها إسرائيل على أنها متوافقة مع القانون
الإنساني الدولي، مما يشير إلى ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية.
ت ـ القتل العشوائي كـ"أضرار جانبية"
أساءت إسرائيل استخدام مفهوم "الأضرار
الجانبية"، لتبرير قتل الفلسطينيين الذين هم أعضاء المجموعة المحمية بموجب
القانون الدولي. ودافعت إسرائيل عن هذه الأفعال بأن "الامتثال مُوجه نحو
السلوك، وليس النتيجة"، مما يشير إلى أنها تعمل بموجب سياسة تتسامح مع القتل
الجماعي. وجاء تفسير الخارجية الإسرائيلية مخالفا تماما للقانون الدولي عندما نصت
في تقييماتها للتناسب على أن "الميزة العسكرية المتوقعة" ليس من عمل
عسكري محدد، بل "من العملية ككل"، في إشارة إلى أن الهدف العام للحرب هو
تدمير منظمة حماس بأكملها سياسيًا وعسكريًا. ومن الواضح أن إعلان تدمير القدرة
السياسية للطرف الآخر كهدف للحرب هو أمر غير قانوني، خاصة في سياق
احتلال عسكري
دام 56 عامًا يحرم الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير. وعندما يُتخذ هذا الهدف
"السياسي" معيارًا لقياس التناسب، فإنه لا يوجد أي حجم للضرر المتوقع
على المدنيين يمكن اعتباره "مفرطًا" طالما لم يتحقق الهدف السياسي غير
القانوني الذي حدده المهاجم، مما يعني تصويرها لنفسها على أنها تُمارس "إبادة
جماعية متناسبة".
ث ـ عمليات الإجلاء والمناطق الآمنة
بموجب القانون الإنساني الدولي، يجب على
أطراف النزاع إجلاء السكان المدنيين والأعيان المدنية من محيط الأهداف العسكرية،
بشرط ألا تُشرّد الأشخاص المحميين إلى خارج الأراضي المحتلة؛ ويجب إعادتهم إلى
منازلهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في المنطقة المعنية. ويجب حماية النازحين
والجرحى والمرضى من خلال إنشاء "مناطق ومستشفيات آمنة" تكون "بعيدة
عن العمليات العسكرية"، ويتم إنشاؤها من خلال اتفاق بين الطرفين. فتنفيذ أمر
الإخلاء لسكان شمال غزة إلى "مناطق آمنة" في الجنوب، كان بشكل عشوائي،
وسط حملة قصف مكثفة، وانقطاع التيار الكهربائي، مما أدى إلى زيادة مستويات الذعر
والنزوح القسري والقتل الجماعي.
ومباشرة بعد أوامر الإخلاء وتحويل جنوب
القطاع إلى "منطقة آمنة" ظاهريًا، صنفت إسرائيل بشكل غير قانوني سكان
شمال غزة الذين بقوا، بما في ذلك المرضى والجرحى على أنهم "دروع بشرية"
و"متواطئون" في الإرهاب. وتشير هذه السياسة إلى نية إسرائيل
"تحويل" مئات الآلاف من المدنيين إلى أهداف عسكرية "مشروعة"
أو ضحايا جانبيين من خلال أوامر إخلاء يستحيل تنفيذها. وشمل أمر الإخلاء الجماعي
22 مستشفى في المنطقة، مما
عرض أكثر من 2000 مريض ونازح لجأوا إلى المستشفيات
للخطر، وحرم من تبقى منهم من الخدمات الأساسية للحياة.
ج ـ المناطق والممرات الآمنة.. مصائد للموت والتطهير
العرقي
اقترن محو الحماية المدنية في منطقة الإخلاء
باستهداف عشوائي للنازحين وسكان المناطق المُعلنة آمنة. ومن بين 500 قنبلة زنة
2000 رطل، ألقتها إسرائيل في الأسابيع الستة الأولى من الحرب، أُلقي 42% منها في
المناطق الآمنة المُعلنة في الجنوب، والتي استهدفتها أيضًا بذخائر أخرى من الجو
والبحر والبر، مما تسبب في دمار واسع النطاق في "المناطق الآمنة"،
وتحويلها عمدًا إلى مناطق قتل جماعي.
وتظهر أنماط مماثلة عسكرة إسرائيل
"للممرات الإنسانية" التي أوعزت للسكان باستخدامها للإخلاء. وعلى النقيض
من الخطاب الإنساني الذي أُعلن من خلاله عن هذه "الممرات الآمنة"، فقد
استُهدفت هذه الممرات بشكل ممنهج وغادر بالقصف المدفعي ونيران القناصة، لتصبح
"ممرات موت". وأقامت نقاط تفتيش لمسح الوجوه والتحقق من الهوية. وكان
الفارون يُحتجزون في كثير من الأحيان، ويُساء معاملتهم ويُعذبون لاحقًا.
دعا مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى إلى استبدال المناطق الآمنة بمستوطنات
استعمارية. ودعا رئيس الوزراء إلى النقل العرقي؛ وأعرب وزير المالية سموتريش عن
دعمه لطرد مليوني فلسطيني من غزة؛ وأعلن وزير الأمن الوطني بن غفير أن الحرب فرصة
"للتركيز على تشجيع هجرة سكان غزة"؛ بينما دعا وزراء آخرون في الحكومة
إلى إعادة توطينهم في سيناء، وفي الدول الغربية وأماكن أخرى. وفي ١٢ يناير/كانون
الثاني 2024، حضر وزراء في الحكومة الإسرائيلية مؤتمرًا لإعادة استعمار غزة وطرد
الفلسطينيين.
إن نمط قتل المدنيين الذين تم إجلاؤهم إلى
الجنوب، إلى جانب تصريحات بعض كبار المسؤولين الإسرائيليين الذين أعلنوا عن نيتهم
تهجيرهم قسرًا خارج غزة واستبدالهم بالمستوطنين الإسرائيليين، يؤدي إلى استنتاج أن
أوامر الإخلاء والمناطق الآمنة قد استُخدمت كأدوات إبادة جماعية لتحقيق التطهير
العرقي.
ح ـ الدروع الطبية
تتعلق الطبقة الأخيرة من "التمويه
الإنساني" بجهود إسرائيل لتوفير غطاء قانوني للهجمات المنهجية ضد المرافق
الطبية والعاملين فيها، مما يتسبب في الانهيار التدريجي لقطاع الرعاية الصحية في
غزة. وقد استُخدم اتهام حماس باستخدام المرافق الطبية كدرع كاستراتيجية "حرب
قانونية طبية" لتبرير الإبادة الجماعية من خلال التدمير الكامل للبنية
التحتية الحيوية في غزة.
تتمتع الرعاية الصحية المدنية بحماية خاصة
بموجب القانون الدولي، وهناك حد أقصى مرتفع لفقدان الوضع المحمي للوحدات الطبية
المدنية. ويحمي القانون الدولي المستشفيات؛ بينما يحظر استخدامها لأغراض عسكرية أو
كدروع للأنشطة العسكرية، مثل وضع أهداف عسكرية بالقرب منها. ومنذ بداية الأعمال
العدائية، وصفت إسرائيل المستشفيات في غزة بأنها مقرات تابعة لحماس، وتُستخدم
مساحاتها لحماية أنشطتها العسكرية. وتهدف إسرائيل من هذا الوصف طمس التمييز بين
الأهداف المدنية والعسكرية، وتحويل المستشفيات إلى "دروع مستشفيات"،
وإضفاء الشرعية على تدمير قطاع الرعاية الصحية بأكمله.
في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نشر الجيش
الإسرائيلي مقطع فيديو ثلاثي الأبعاد يُظهر أن ما تحت مستشفى الشفاء في شمال غزة
عبارة عن شبكة معقدة من الأنفاق تعمل كـ"مركز قيادة لحماس". وفي 2
نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت وزارة الخارجية وثيقة قانونية تُصنّف المستشفى كمركز
عسكري يُخفي أصولًا عسكرية. ووُضع المستشفى لاحقًا تحت الحصار، رغم أنه كان يستضيف
عشرات الآلاف من النازحين. وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2023، اتهمت إسرائيل
حماس باستخدام الطواقم الطبية بالمستشفى كـ"دروع بشرية". وبعد أيام من
الهجمات، تحول المستشفى إلى "منطقة موت"، وتحولت أجزاء منه إلى مقابر
جماعية.
وفقا للقانون الإنساني الدولي، فإن استخدام الدروع البشرية جريمة حرب. وقد ربطت إسرائيل كل الأعيان المدنية في القطاع بحماس لتعزيز تصوير السكان بأنهم "متواطئون" مع حماس، لذا يمكن قتلهم. وهكذا، حوّلت إسرائيل غزة إلى "عالم بلا مدنيين"، كذريعة لتبرير قتلهم تحت ستار من الشرعية المزعومة.
طعنت تقارير إعلامية في مزاعم إسرائيل بأن
حماس كانت تستخدم مستشفى الشفاء كدروع بشرية، مؤكدةً عدم وجود دليل يشير إلى أن
الغرف المتصلة بالمستشفى كانت تستخدمها حماس؛ ووُجد أن مباني المستشفى، على عكس
الصور العسكرية الإسرائيلية ثلاثية الأبعاد، غير متصلة بشبكة الأنفاق؛ ولم يكن
هناك أي دليل على إمكانية الوصول إلى الأنفاق من أجنحة المستشفى. بالإضافة إلى
ذلك، أفادت التقارير أن الجيش الإسرائيلي أعاد ترتيب الأسلحة في مستشفى الشفاء قبل
زيارات طواقم الأخبار، مما أثار المزيد من الشكوك حول التزييف بعد أن ادعى الجيش
الإسرائيلي أن "قائمة الإرهابيين" التي عثر عليها في مستشفى آخر في غزة،
وهو مستشفى الرنتيسي للأطفال، تبين أنها تقويم لأيام الأسبوع باللغة العربية. ومن
الواضح أن النية وراء "التمويه الإنساني" الذي استخدمته إسرائيل في هذه
الحالة لا يمكن وصفها إلا بالإبادة الجماعية:
1 ـ كانت إسرائيل على علم بالدمار واسع
النطاق الذي لحق بالنظام الصحي منذ أن أفادت منظمة الصحة العالمية في منتصف
نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بأن "كارثة صحية عامة" تتطور في غزة، حيث
توقف 26 مستشفى من أصل 35 عن العمل بسبب القصف والحصار الذي فرضته إسرائيل.
2 ـ كانت إسرائيل تعلم أن عمليتها العسكرية
أسفرت عن عدد كبير من الجرحى. وتشكل الصدمات الجسدية السبب الرئيسي للوفيات
الزائدة في غزة.
3 ـ كان من المتوقع أن يؤدي تعليق الخدمات
قسراً في أكبر مستشفى في غزة إلى الإضرار بشكل خطير بفرص بقاء المصابين ومرضى
الأمراض المزمنة والأطفال حديثي الولادة في الحاضنات. لذلك، وباستهدافها مستشفى
الشفاء، حكمت إسرائيل عمدًا على آلاف المرضى والنازحين بمعاناة وموت كان من الممكن
تجنبهما.
إن الاعتماد على استراتيجية التعامل مع
المستشفيات كدروع طبية، متجاهلةً وظيفتها كمراكز لا غنى عنها لآلاف الجرحى
والكثيرين غيرهم ممن يبحثون عن مأوى، يكشف عن جانب آخر من منطق الإبادة الجماعية
الذي يرتكز عليه الاستراتيجية العسكرية التي تتبناها إسرائيل.
الخلاصة
استغلت إسرائيل لغة ومفاهيم القانون
الإنساني الدولي، وحرفتها لإخفاء هجومها الإبادي على غزة. وزعمت أنها حرب مشروعة
للدفاع عن النفس، وأنها خاضتها بجهود إنسانية لتجنيب السكان المدنيين الذين صوّرهم
كبار المسؤولين الإسرائيليين كمجموعة من الأهداف المشروعة. هذا، رغم أن اتفاقية
الإبادة الجماعية واتفاقيات جنيف الأربع تشكل جزءًا من البنية القانونية الدولية
التي تحمي المدنيين والجماعات من الإبادة في آنٍ واحد أثناء الحرب. ويكشف التمويه
الإنساني الإسرائيلي في غزة عن هشاشة هذه البنية في سياق فلسطين.
وقدّم قانون النزاعات المسلحة لإسرائيل
مجموعةً من فئات القتل المشروع، والتي عند تحريف إسرائيل لها، أثبتت أنها تُسرّع
من محو الفلسطينيين واعتبارهم أهدافاً عسكرية. وبهذه الطريقة، تحوّل قانون
النزاعات المسلحة إلى "قانون الإبادة الجماعية المسلحة"، وهو مصطلحٌ
لإضفاء الشرعية على وسائل وأساليب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة. وبذلك،
أصبح القانون الدولي الإنساني نقيضًا لاتفاقية الإبادة الجماعية، وتحوّل وجود
السكان المدنيين وبقاؤهم إلى متغيرات تعتمد على الضرورات العسكرية للقوة المحتلة
وتخضع لها.
ومن خلال هذه العملية، "التمويه
الإنساني"، قلبت إسرائيل العلاقة بين الحماية التكميلية للقانون الدولي
الإنساني وحظر الإبادة الجماعية. وتم تحريف اتفاقية الإبادة الجماعية واتفاقيات
جنيف بما يسمح لها بإضفاء الشرعية على جرائم الحرب بالسعي إلى تدمير الفلسطينيين،
المجموعة المحمية، من خلال رفع مستوى ارتكابها إلى مستوى السياسة العسكرية.
وفي هذه النسخة المقلوبة من القانون
الإنساني الدولي التي طورتها إسرائيل لتفادي المساءلة، فإنها مأسست القتل المتعمد
لحشود المدنيين في غزة، والتدمير المنهجي لجميع البنى التحتية التي تدعم حياتهم
الجماعية، مما أدى إلى تعريضهم لمستويات من الأذى الجسدي والنفسي غير مسبوقة في
التاريخ الفلسطيني. ولقد ارتُكبت هذه الجرائم في سياق سياسة حكومية قائمة على
الحصار، والتجويع المطول، وفرض ظروف معيشية مُصممة لتدمير الشغب الفلسطيني في غزة،
مع تصويرها في الوقت نفسه على أنها متوافقة مع قواعد القانون الدولي الإنساني.
إن نية الإبادة الجماعية الإسرائيلية مُدرجة
في استراتيجياتها للتمويه الإنساني. لذا، فإنه لكشف هذه النية، يجب علينا فك
الشفرة التي قننت بها سياسات الإبادة في لغة عامية ليبرالية تُحاكي القانون الدولي
الإنساني. خصوصا، أنه لم يسبق لأي إبادة جماعية في التاريخ أن اعتبرت تدمير
المجموعة الضحية غاية في حد ذاتها. ولطالما اعتبر مرتكبوها أنها وسيلةً ضرورية
أُجبروا على تبنيها كمنهج عمل لتحقيق أهداف أيديولوجية "متفوقة" أكثر
إلحاحًا، مثل حماية العِرق، أو الأمن القومي على المدى الطويل، أو بقاء جماعة
مرتكبي الإبادة الجماعية.